فصل: تفسير الآيات رقم (63- 64)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏63‏)‏ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

تذكير بقصة أخرى أرى الله تعالى أسلافهم فيها بطشه ورحمته فلم يرتدعوا ولم يشكروا وهي أن أخذ الميثاق عليهم بواسطة موسى عليه السلام أن يعملوا بالشريعة وذلك حينما تجلى الله لموسى عليه السلام في الطور تجلياً خاصاً للجبل فتزعزع الجبل وتزلزل وارتجف وأحاط به دخان وضباب ورعود وبرق كما ورد في صفة ذلك في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج وفي الفصل الخامس من سفر التثنية فلعل الجبل من شدة الزلازل وما ظهر حوله من الأسحبة والدخان والرعود صار يلوح كأنه سحابة، ولذلك وصف في آية الأعراف ‏(‏171‏)‏ بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة‏}‏ ‏[‏نتقه‏:‏ زعزعه ونقضه‏]‏ حتى يخيل إليهم أنه يهتز وهذا نظير قولهم استطاره إذا أزعجه فاضطرب فأعطوا العهد وامتثلوا لجميع ما أمرهم الله تعالى وقالوا‏:‏ «كل ما تكلم الله به نفعله فقال الله لموسى فليؤمنوا بك إلى الأبد» وليس في كتب بني إسرائيل ولا في الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن الله قلع الطور من موضعه ورفعه فوقهم وإنما ورد ذلك في أخبار ضعاف فلذلك لم نعتمده في التفسير‏.‏

وضمائر الخطاب لتحميل الخلف تبعات السلف كيلا يقعوا في مثلها وليستغفروا لأسلافهم عنها‏.‏

والميثاق في هاته الآية كالعهد في الآيات المتقدمة مراد به الشريعة ووعدهم بالعمل بها وقد سمته كتبهم عهداً كما قدمنا وهو إلى الآن كذلك في كتبهم‏.‏ وهذه معجزة علمية لرسولنا صلى الله عليه وسلم

والطُّور علم على جبل ببرية سينا، ويقال إن الطور اسم جنس للجبال في لغة الكنعانيين نقل إلى العربية وأنشدوا قول العجاج‏:‏

دَانَى جَناحيه من الطورِ فمَرْ *** تَقَضِّيَ البازِي إذا البازِي كَسَر

فإذا صح ذلك فإطلاقه على هذا الجبل علم بالغلبة في العبرية لأنهم وجدوا الكنعانيين يذكرونه فيقولون الطور يعنون الجبل كلمة لم يسبق لهم أن عرفوها فحسبوها علماً له فسموه الطور‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏خذوا ما آتيناكم بقوة‏}‏ مقول قول، محذوف تقديره قائلين لهم خذوا، وذلك هو الذي أخذ الميثاق عليه‏.‏ والأخذ مجاز عن التلقي والتفهم‏.‏ والقوة مجاز في الإيعاء وإتقان التلقي والعزيمة على العمل به كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا يحيى خُذ الكتاب بقوة‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 12‏]‏‏.‏

ويجوز أن يكون الذكر مجازاً عن الامتثال أي اذكروه عند عزمكم على الأعمال حتى تكون أعمالكم جارية على وفق ما فيه، أو المراد بالذكر التفهم بدليل حرف ‏(‏في‏)‏ المؤذن بالظرفية المجازية أي استنباط الفروع من الأصول‏.‏

والمراد بما آتاهم ما أوحاه إلى موسى وهو الكلمات العشر التي هي قواعد شريعة التوراة‏.‏

وجملة ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏ علة للأمر بقوله‏:‏ ‏{‏خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه‏}‏ ولذلك فصلت بدون عطف‏.‏

والرجاء الذي يقتضيه حرف ‏(‏لعل‏)‏ مستعمل في معنى تقريب سبب التقوى بحضهم على الأخذ بقوة، وتعهد التذكر لما فيه، فذلك التقريب والتبيين شبيهٌ برجاء الراجي‏.‏

ويجوز أن يكون ‏(‏لعل‏)‏ قرينة استعارة تمثيل شأن الله حين هيأ لهم أسباب الهداية بحال الراجي تقواهم وعلى هذا محمل موارد كلمة ‏(‏لعل‏)‏ في الكلام المسند إلى الله تعالى‏.‏ وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الناس اعبدوا ربكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثم توليتم من بعد ذلك‏}‏ إشارة إلى عبادتهم العجل في مدة مناجاة موسى وأن الله تاب عليهم بفضله ولولا ذلك لكانوا من الخاسرين الهالكين في الدنيا أو فيها وفي الآخرة‏.‏

ولا حاجة بنا إلى الخوض في مسألة التكليف الإلجائي ومنافاة الإلجاء للتكليف وهي مسألة تكليف المُلْجأ، المذكورة في الأصول لأنها بنيت هنا على أطلال الأخبار المروية في قلع الطور ورفعه فوقهم وقول موسى لهم إما أن تؤمنوا أويقع عليكم الطور، على أنه لو صحت تلك الأخبار لما كان من الإلجاء في شيء إذ ليس نصب الآيات والمعجزات والتخويف من الإلجاء وإنما هو دلالة وبرهان على صدق الرسول وصحة ما جاء به والممتنع في التكليف هو التكليف في حالة الإلجاء لا التخويف لإتمام التكليف، فلا تغفلوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ‏(‏65‏)‏ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

هذه من جملة الأخبار التي ذكرها الله تعالى تذكيراً لليهود بما أتاه سلفهم من الاستخفاف بأوامر الله تعالى وبما عرض في خلال ذلك من الزواجر والرحمة والتوبة، وإنما خالف في حكاية هاته القصة أسلوب حكاية ما تقدمها وما تلاها من ذِكر ‏{‏إذ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 63‏]‏ المؤذنة بزمن القصة والمشعرة بتحقق وقوعها إلى قوله هنا‏:‏ ‏{‏ولقد علمتم‏}‏ لمعنى بديع هو من وجوه إعجاز القرآن وذلك أن هذه القصة المشار إليها بهذه الآية ليست من القصص التي تضمنتها كتب التوراة مثل القصص الأخرى المأتي في حكايتها بكلمة ‏(‏إذ‏)‏ لأنها متواترة عندهم بل هذه القصة وقعت في زمن داود عليه السلام، فكانت غير مسطورة في الأسفار القديمة وكانت معروفة لعلمائهم وأحبارهم فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عليها وتلك معجزة غيبية وأوحى إليه في لفظها ما يؤذن بأن العلم بها أخفى من العلم بالقصص الأخرى فأسند الأمر فيها لعلمهم إذ قال‏:‏ ‏{‏ولقد علمتم‏}‏‏.‏

والاعتداء وزنه افتعال من العدو وهو تجاوز حد السير والحد والغاية‏.‏ وغلب إطلاق الاعتداء على مخالفة الحق وظلم الناس والمراد هنا اعتداء الأمر الشرعي لأن الأمر الشرعي يشبَّه بالحد في أنه يؤخذ بما شمله ولا يؤخذ بما وراءه والاعتداء الواقع منهم هو اعتداء أمر الله تعالى إياهم من عهد موسى بأن يحافظوا على حكم السبت وعدم الاكتساب فيه ليتفرغوا فيه للعبادة بقلب خالص من الشغل بالدنيا، فكانت طائفة من سكان أَيلة على البحر رأوا تكاثر الحيتان يوم السبت بالشاطئ لأنها إذا لم تر سفن الصيادين وشباكهم أمنت فتقدمت إلى الشاطئ تفتح أفواهها في الماء لابتلاع ما يكون على الشواطئ من آثار الطعام ومن صغير الحيتان وغيرها فقالوا لو حفرنا لها حياضاً وشرعنا إليها جداول يوم الجمعة فتمسك الحياض الحوت إلى يوم الأحد فنصطادها وفعلوا ذلك فغضب الله تعالى عليهم لهذا الحرص على الرزق أو لأنهم يشغلون بالهم يوم السبت بالفكر فيما تحصّل لهم أو لأنهم تحيلوا على اعتياض العمل في السبت، وهذا الذي أحسبه لما اقترن به من الاستخفاف واعتقادهم أنهم علموا ما لم تهتد إليه شريعتهم فعاقبهم الله تعالى بماذكره هنا‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏في السبت‏}‏ يجوز أن تكون ‏(‏في‏)‏ للظرفية‏.‏ والسبت مصدر سَبَتَ اليهودي من باب ضرب ونصر بمعنى احترم السبت وعظمه‏.‏ والمعنى اعتدوا في حال تعظيم السبت أو في زمن تعظيم السبت‏.‏ ويجوز أن تكون ‏(‏في‏)‏ للعلة أي اعتدوا اعتداء لأجل ما أوجبه احترام السبت من قطع العمل‏.‏ ولعل تحريم الصيد فيه ليكون أمناً للدواب‏.‏

ويجوز أن تكون ‏(‏في‏)‏ ظرفية والسبت بمعنى اليوم وإنما جعل الاعتداء فيه مع أن الحفر في يوم الجمعة لأن أثره الذي ترتب عليه العصيان وهو دخول الحيتان للحياض يقع في يوم السبت‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين‏}‏ كونوا أمر تكوين والقردة بكسر القاف وفتح الراء جمع قرد وتكوينهم قردة يحتمل أن يكون بتصيير أجسامهم أجسام قردة مع بقاء الإدراك الإنساني وهذا قول جمهور العلماء والمفسرين، ويحتمل أن يكون بتصيير عقولهم كعقول القردة مع بقاء الهيكل الإنساني، وهذا قول مجاهد والعبرة حاصلة على كلا الاعتبارين والأول أظهر في العبرة لأن فيه اعتبارهم بأنفسهم واعتبار الناس بهم بخلاف الثاني والثاني أقرب للتاريخ إذ لم ينقل مسخ في كتب تاريخ العبرانيين، والقدرة صالحة للأمرين والكل معجزة للشريعة أو لداود ولذلك قال الفخر‏:‏ ليس قول مجاهد ببعيد جداً لكنه خلاف الظاهر من الآية وليس الآية صريحة في المسخ‏.‏

ومعنى كونهم قردة أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها وأخذوا بصورة الألفاظ فقد أشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب لا مسخ ذوات‏.‏

ثم إن القائلين بوقوع المسخ في الأجسام اتفقوا أو كادوا على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام وأنه لا يتناسل وروى ذلك ابن مسعود عن النبيء صلى الله عليه وسلم في «صحيح مسلم» أنه قال‏:‏ ‏"‏ لم يهلك الله قوماً أو يعذب قوماً فيجعل لهم نسلاً ‏"‏ وهو صريح في الباب ومن العلماء من جوز تناسل الممسوخ وزعموا أن الفيل والقرد والضب والخنزير من الأمم الممسوخة وقد كانت العرب تعتقد ذلك في الضب قال أحد بني سليم وقد جاء لزوجه بضب فأبت أن تأكله‏:‏

قالت وكنت رجلاً فطيناً *** هذا لعمر الله إسرائينا

حتى قال بعض الفقهاء بحرمة أكل الفيل ونحوه بناء على احتمال أن أصله نسل آدمي قال ابن الحاجب «وأما ما يذكر أنه ممسوخ كالفيل والقرد والضب ففي المذهب الجواز لعموم الآية والتحريم لما يذكر» أي لعموم آية المأكولات، وصحح صاحب «التوضيح» عن مالك الجواز وقد روى مسلم في أحاديث متفرقة من آخر «صحيحه» عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أُراها إلا الفأر، ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته ‏"‏ اه‏.‏ وقد تأوله ابن عطية وابن رشد في «البيان» وغير واحد من العلماء بأن هذا قاله النبيء صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد قبل أن يوقفه الله على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ولا يتناسل كما هو صريح حديث ابن مسعود، قلت‏:‏ يؤيد هذا أنه قال عن اجتهاد قوله‏:‏ «ولا أُراها»‏.‏

ولا شك أن هاته الأنواع من الحيوان موجودة قبل المسخ وأن المسخ إليها دليل على وجودها ومعرفة الناس بها‏.‏

وهذا الأمر التكويني كان لأجل العقوبة على ما اجترأوا من الاستخفاف بالأمر الإلهي حتى تحيلوا عليه وفي ذلك دليل على أن الله تعالى لا يرضى بالحيل على تجاوز أوامره ونواهيه فإن شرائع الله تعالى مشروعة لمصالح وحكم فالتحيل على خرق تلك الحكم بإجراء الأفعال على صور مشروعة مع تحقق تعطيل الحكمة منها جراءة، على الله تعالى، ولا حجة لمن ينتحل جواز الحيل بقوله تعالى في قصة أيوب‏:‏ ‏{‏وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 44‏]‏ لأن تلك فتوى من الله تعالى لنبيء لتجنب الحنث الذي قد يتفادى عنه بالكفارة ولكن الله لم يرض أصل الحنث لنبيه لأنه خلاف الأولى فأفتاه بما قاله، وذلك مما يعين على حكمة اجتناب الحنث لأن فيه محافظة على تعظيم اسم الله تعالى فلا فوات للحكمة في ذلك، ومسألة الحيل الشرعية لعلنا نتعرض لها في سورة ص وفيها تمحيص‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فجعلناها نكالاً‏}‏ عاد فيه الضمير على العقوبة المستفادة من قوله‏:‏ ‏{‏فقنا لهم كونوا قردة‏}‏‏.‏ والنكال بفتح النون العقاب الشديد الذي يردع المعاقب عن العود للجناية ويردع غيره عن ارتكاب مثلها، وهو مشتق من نكل إذا امتنع ويقال نكّل به تنكيلاً ونكالاً معنى عاقبه بما يمنعه من العود‏.‏ والمراد بما بين يديها وما خلفها ما قارنها من معاصيهم وما سبق يعني أن تلك الفعلة كانت آخر ما فعلوه فنزلت العقوبة عندها ولما بين يديها من الأمم القريبة منها ولما خلفها من الأمم البعيدة‏.‏ والموعظة ما به الوعظ وهو الترهيب من الشر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

تعرضت هذه الآية لقصة من قصص بني إسرائيل ظهر فيها من قلة التوقير لنبيهم ومن الإعنات في المسألة والإلحاح فيها إما للتفصي من الامتثال وإما لبعد أفهامهم عن مقصد الشارع ورومهم التوقيف على ما لاقصد إليه‏.‏ قيل‏:‏ إن أول هذه القصة هو المذكور بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 72‏]‏ الآية وإن قول موسى‏:‏ ‏{‏إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة‏}‏ ناشئ عن قتل النفس المذكورة، وإن قول موسى قدم هنا لأن خطاب موسى عليه السلام لهم قد نشأ عنه ضرب من مذامهم في تلقي التشريع وهو الاستخفاف بالأمر حين ظنوه هزؤاً والإعنات في المسألة فأريد من تقديم جزء القصة تعدد تقريعهم، هكذا ذكر صاحب «الكشاف» والموجهون لكلامه، ولا يخفى أن ما وجهوا به تقديم جزء القصة لا يقتضي إلا تفكيك القصة إلى قصتين تعنون كل واحدة منهما بقوله‏:‏ ‏{‏وإذ‏}‏ مع بقاء الترتيب، على أن المذام قد تعرف بحكايتها والتنبيه عليها بنحو قوله‏:‏ ‏{‏أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين وقوله‏:‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 71‏]‏‏.‏

فالذي يظهر لي أنهما قصتان أشارت الأولى وهي المحكية هنا إلى أمر موسى إياهم بذبح بقرة وهذه هي القصة التي أشارت إليها التوراة في السفر الرابع وهو سفر التشريع الثاني ‏(‏تثنية‏)‏ في الإصحاج 21 أنه «إذا وجد قتيل لا يعلم قاتله فإن أقرب القرى إلى موقع القتيل يخرج شيوخها ويخرجون عجلة من البقر لم يحرث عليها ولم تنجُر بالنير فيأتون بها إلى واد دائم السيلان لم يحرث ولم يزرع ويقطعون عنقها هنالك ويتقدم الكهنة من بني لاوى فيغسل شيوخ تلك القرية أيديهم على العجلة في الوادي ويقولون لم تسفك أيدينا هذا الدم ولم تبصر أعيننا سافكه فيغفر لهم الدم» اه‏.‏ هكذا ذكرت القصة بإجمال أضاع المقصود وأبهم الغرض من هذا الذبح أهو إضاعة ذلك الدم باطلاً أم هو عند تعذر معرفة المتهم بالقتل‏؟‏ وكيفما كان فهذه بقرة مشروعة عند كل قتل نفس جُهل قاتلها وهي المشار إليها هنا، ثم كان ما حدث من قتل القتيل الذي قتله أبناء عمه وجاءوا مظهرين المطالبة بدمه وكانت تلك النازلة نزلت في يوم ذبح البقرة فأمرهم الله بأن يضربوا القتيل ببعض تلك البقرة التي شأنها أن تذبح عند جهل قاتل نفس‏.‏ 4 وبذلك يظهر وجه ذكرهما قصتين وقد أجمل القرآن ذكر القصتين لأن موضع التذكير والعبرة منهما هو ما حدث في خلالهما لا تفصيل الوقائع فكانت القصة الأولى تشريعاً سيق ذكره لما قارنه من تلقيهم الأمر بكثرة السؤال الدال على ضعف الفهم للشريعة وعلى تطلب أشياء لا ينبغي أن يظن اهتمام التشريع بها، وكانت القصة الثانية منة عليهم بآية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسولهم بينها الله لهم ليزدادوا إيماناً ولذلك ختمت بقوله‏:‏

‏{‏ويريكم آياته لعلكم تعقلون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 73‏]‏ وأتبعت بقوله‏:‏ ‏{‏ثم قست قلوبكم من بعد ذلك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 74‏]‏‏.‏

والتأكيد في قوله‏:‏ ‏{‏إن الله يأمركم‏}‏ حكاية لما عبر به موسى من الاهتمام بهذا الخبر الذي لو وقع في العربية لوقع مؤكداً بإنَّ‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏تتخذنا هزؤاً‏}‏ استفهام حقيقي لظنهم أن الأمر بذبح بقرة للاستبراء من دم قتيل كاللعب و‏{‏تتخذنا‏}‏ بمعنى تجعلنا وسيأتي بيان أصل فعل اتخذ عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتتخذ أصناماً آلهة‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏74‏)‏‏.‏

والهزؤ بضم الهمزة والزاي وبسكون الزاي مصدر هزأ به هزءاً وهو هنا مصدر بمعنى المفعول كالصيد والخلق‏.‏

وقرأ الجمهور ‏(‏هزؤًا‏)‏ بضمتين وهمز بعد الزاي وصلاً ووقفاً، وقرأ حمزة بسكون الزاي وبالهمز وصلاً، ووقف عليه بتخفيف الهمز واواً وقد رسمت في المصحف واواً، وقرأ حفص بضم الزاي وتخفيف الهمز واواً في الوصل والوقف‏.‏

وقول موسى‏:‏ أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين‏}‏ تبرؤٌ وتنزه عن الهزء لأنه لا يليق بالعقلاء الأفاضل فإنه أخص من المزح لأن في الهزؤِ مزحاً مع استخفاف واحتقار للمزوح معه على أن المزح لا يليق في المجامع العامة والخطابة، على أنه لا يليق بمقام الرسول ولذا تبرأ منه موسى بأنه نفى أن يكون من الجاهلين كناية عن نفي المزح بنفي ملزومه، وبالغ في التنزه بقوله ‏{‏أعوذ بالله‏}‏ أي منه لأن العياذ بالله أبلغ كلمات النفي فإن المرء لا يعوذ بالله إلا إذا أراد التغلب على أمر عظيم لا يغلبه إلا الله تعالى‏.‏ وصيغة ‏{‏أن أكون من الجاهلين‏}‏ أبلغ في انتفاء الجهالة من أن لو قال أعوذ بالله أن أجهل كما سيأتي في سورة الأنعام ‏(‏56‏)‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏وما أنا من المهتدين‏}‏

والجهل ضد العلم وضد الحلم وقد ورد لهما في كلام العرب، فمن الأول قول عمرو بن كلثوم‏:‏

ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ومن الثاني قول الحماسي‏:‏

فليس سواء عالم وجهول *** وقول النابغة‏:‏

وليس جاهل شيء مثل من علما‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

جيء في مراجعتهم لنبيهم بالطريقة المألوفة في حكاية المحاورات، وهي طريقة حذف العاطف بين أفعال القول وقد بيناها لكم في قصة خلق آدم‏.‏

ومعنى ‏{‏ادع لنا‏}‏ يحتمل أن يراد منه الدعاء الذي هو طلب بخضوع وحرص على إجابة المطلوب فيكون في الكلام رغبتهم في حصول البيان لتحصيل المنفعة المرجوة من ذبح بقرة مستوفية للصفات المطلوبة في القرابين المختلفة المقاصد، بنوه على ما ألفوه من الأمم عبدة الأوثان من اشتراط صفات وشروط في القرابين المقربة تختلف باختلاف المقصود من الذبيحة، ويحتمل أنهم أرادوا مطلق السؤال فعبروا عنه بالدعاء لأنه طلب من الأدنى إلى الأعلى، ويحتمل أنهم أرادوا من الدعاء النداء الجهير بناء على وهمهم أن الله بعيد المكان، فسائله يجهر بصوته، وقد نهي المسلمون عن الجهر بالدعاء في صدر الإسلام‏.‏

واللام في قوله ‏{‏لنا‏}‏ لام الأجل أي ادع عنا، وجزم ‏{‏يبين‏}‏ في جواب ‏{‏ادع‏}‏ لتنزيل المسبب منزلة السبب، أي إن تدعه يسمع فيبين وقد تقدم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ما هي‏}‏ حكى سؤالهم بما يُدل عليه بالسؤال ب ‏(‏ما‏)‏ في كلام العرب وهو السؤال عن الصفة لأن ‏(‏ما‏)‏ يسأل بها عن الصفة، كما يقول من يسمع الناس يذكرون حاتماً أو الأحنف وقد علم أنهما رجلان ولم يعلم صفتيهما ما حاتم‏؟‏ أو ما الأحنف‏؟‏ فيقال‏:‏ كريم أو حليم‏.‏

وليس ‏(‏ما‏)‏ موضوعة للسؤال عن الجنس كما توهمه بعض الواقفين على كلام «الكشاف» فتكلفوا لتوجيهه حيث إن جنس البقرة معلوم بأنهم نزلوا هاته البقرة المأمور بذبحها منزلة فرد من جنس غير معلوم لغرابة حكمة الأمر بذبحها وظنوا أن الموقع هنا للسؤال ب ‏(‏أي‏)‏ أو ‏(‏كيف‏)‏ وهو وهم نبه عليه التفتزاني في «شرح الكشاف» واعتضد له بكلام «المفتاح» إذ جعل الجنس والصفة قسمين للسؤال بما‏.‏

والحق أن المقام هنا للسؤال بما لأن أيًّا إنما يسأل بها عن مميز الشيء عن أفراد من نوعه التبستْ به وعلامة ذلك ذكر المضاف إليه مع أي نحو‏:‏ ‏{‏أي الفريقين خير‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 73‏]‏ وأي البقرتين أعجبتك وليس لنا هنا بقرات معينات يراد تمييز إحداها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قال إنه يقول إنها بقرة‏}‏ أكد مقول موسى ومقول الله تعالى بإن لمحاكاة ما اشتمل عليه كلام موسى من الاهتمام بحكاية قول الله تعالى فأكده بإن، وما اشتمل عليه مدلول كلام الله تعالى لموسى من تحقيق إرادته ذلك تنزيلاً لهم منزلة المنكرني لما بدا من تعنتهم وتنصلهم، ويجوز أن يكون التأكيد الذي في كلام موسى لتنزيلهم منزلة أن يكون الله قال لموسى ذلك جرياً على اتهامهم السابق في قولهم‏:‏ ‏{‏أتتخذنا هزؤاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏ جواباً عن قوله‏:‏ ‏{‏إن الله يأمركم‏}‏‏.‏

ووقع قوله‏:‏ ‏{‏لا فارض ولا بكر‏}‏ موقع الصفة لبقرة وأقحم فيه حرف ‏(‏لا‏)‏ لكون الصفة بنفي وصف ثم بنفي آخر على معنى إثبات وصف واسطة بين الوصفين المنفيين فلما جيء بحرف ‏(‏لا‏)‏ أجري الإعراب على ما بعده لأن ‏(‏لا‏)‏ غيرعاملة شيئاً فيعتبر ما قبل لا على عمله فيما بعدها سواء كان وصفاً كما هنا وقوله تعالى‏:‏

‏{‏زيتونة لا شرقية ولا غربية‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ وقول جويرية أو حويرثة بن بدر الرامي‏:‏

وقد أدركْتني والحوادثُ جمة *** أسنة قوم لا ضعاف ولا عُزْلِ

أو حالاً كقول الشاعر وهومن شواهد النحو‏:‏

قهرْتَ العِدَا لا مستعيناً بعُصبة *** ولكنْ بأنواع الخدائع والمكر

أو مضافاً كقول النابغة‏:‏

وشيمة لاوَان لا وَاهِن القُوى *** وجَدَ إذا خَاب المُفيدونَ صَاعِدِ

أو خبر مبتدأ كما وقع في حديث أم زرع قول الأولى‏:‏ «لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل» على رواية الرفع أي هو أي الزوج لا سهل ولا سمين‏.‏ وجمهور النحاة أن لا هذه يجب تكريرها في الخبر والنعت والحال أي بأن يكون الخبر ونحوه شيئين فأكثر فإن لم يكن كذلك لم يجز إدخال ‏(‏لا‏)‏ في الخبر ونحوه وجعلوا بيت جويرية أو حويرثة ضرورة وخالف فيه المبرد‏.‏ وليست ‏(‏لا‏)‏ في مثل هذا بعاملة عمل ليس ولا عمل إن، وذكر النحاة لهذا الاستعمال في أحد هذين البابين لمجرد المناسبة‏.‏

واعلم أن نفي وصفين بحرف ‏(‏لا‏)‏ قد يستعمل في إفادة إثبات وصف ثالث هو وسط بين حالي ذينك الوصفين مثل ما في هذه الآية بدليل قوله‏:‏ ‏{‏عوان بين ذلك‏}‏ ومثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 143‏]‏ وقد يستعمل في إرادة مجرد نفي ذينك الوصفين لأنهما مما يطلب في الغرض الواردين فيه ولا يقصد إثبات وصف آخر وسط بينهما وهو الغالب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 42 44‏]‏‏.‏

والفارض المسنة لأنها فرضت سنها أي قطعتها، والفرض القطع ويقال للقديم فارض‏.‏ والبكر الفتية مشتقة من البكرة بالضم وهي أول النهار لأن البكر في أول السنوات عمرها والعوان هي المتوسطة السن‏.‏

وإنما اختيرت لهم العوان لأنها أنفس وأقوى ولذلك جعلت العوان مثلاً للشدة في قول النابغة‏:‏

ومن يتَربّص الحَدَثَانَ تنزل *** بمَولاه عوان غيرُ بِكر

أي مصيبة عوان أي عظيمة‏.‏ ووصفوا الحرب الشديدة فقالوا‏:‏ حرب عوان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بين ذلك‏}‏ أي بين هذين السنين، فالإشارة للمذكور المتعدد‏.‏ ولهذا صحت إضافة بين لاسم الإشارة كما تضاف للضمير الدال على متعدد وإن كان كلمة واحدة في نحو بينها‏.‏ وإفراد اسم الإشارة على التأويل بالمذكور كما تقدم قريباً عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61‏]‏‏.‏

وجاء في جوابهم بهذا الإطناب دون أن يقول من أول الجواب إنها عوان تعريضاً بغباوتهم واحتياجهم إلى تكثير التوصيف حتى لا يترك لهم مجالاً لإعادة السؤال‏.‏

فإن قلت‏:‏ هم سألوا عن صفة غيرمعينة فمن أين علم موسى أنهم سألوا عن السن‏؟‏ ومن أين علم من سؤالهم الآتي ب ‏{‏ما هي‏}‏ أيضاً أنهم سألوا عن تدربها على الخدمة‏؟‏

قلت‏:‏ يحتمل أن يكون ‏{‏ما هي‏}‏ اختصاراً لسؤالهم المشتمل على البيان وهذا الاختصار من إبداع القرآن اكتفاء بما يدل عليه الجواب، ويحتمل أن يكون ما حكى في القرآن مرادف سؤالهم فيكون جواب موسى عليه السلام بذلك لعلمه بأن أول ما تتعلق به أغراض الناس في معرفة أحوال الدواب هو السن فهو أهم صفات الدابة ولما سألوه عن اللون ثم سألوا السؤال الثاني المبهم علم أنه لم يبق من الصفات التي تختلف فيها مقاصد الناس من الدواب غير حالة الكرامة أي عدم الخدمة لأن ذلك أمر ضعيف إذ قد تخدم الدابة النفيسة ثم يكرمها من يكتسبها بعد ذلك فتزول آثار الخدمة وشعثها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فافعلوا ما تؤمرون‏}‏ الفاء للفصيحة وموقعها هنا موقع قطع العذر مع الحث على الامتثال كما هي في قول عباس بن الأحنف‏:‏

قالوا خراسانُ أقْصَى ما يُراد بنا *** ثم القُفُولُ فقد جئْنا خُرَاسَانا

أي فقد حصل ما تعللتم به من طول السفر‏.‏ والمعنى فبادروا إلى ما أمرتم به وهو ذبح البقرة، و‏(‏ما‏)‏ موصولة والعائد محذوف بعد حذف جاره على طريقة التوسع لأنهم يقولون أمرتك الخير، فتوسلوا بحذف الجار إلى حذف الضمير‏.‏

وفي حث موسى إياهم على المبادرة بذبح البقرة بعدما كلفوا به من اختيارها عواناً دليل على أنهم مأمورون بذبح بقرة مّا غير مراد منها صفة مقيدة لأنه لما أمرهم بالمبادرة بالذبح حينئذ علمنا وعلموا أن ما كلفوا به بعد ذلك من طلب أن تكون صفراء فاقعة وأن تكون سالمة من آثار الخدمة ليس مما أراده الله تعالى عند تكليفهم أول الأمر وهو الحق، إذ كيف تكون تلك الأوصاف مرادة مع أنها أوصاف طردية لا أثر لها في حكمة الأمر بالذبح لأنه سواء كان أمراً بذبحها للصدقة أو للقربان أو للرش على النجس أو للقسامة فليس لشيء من هاته الصفات مناسبة للحكم، وبذلك يعلم أن أمرهم بهاته الصفات كلها هو تشريع طارئ قصد منه تأديبهم على سؤالهم فإن كان سؤالهم للمطل والتنصل فطلب تلك الصفات المشقة عليهم تأديب على سوء الخلق والتذرع للعصيان، وإن كان سؤالاً ناشئاً عن ظنهم أن الاهتمام بهاته البقرة يقتضي أن يراد منها صفات نادرة كما هو ظاهر قولهم بعد‏:‏ ‏{‏وإنا إن شاء الله لمهتدون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 70‏]‏ فتكليفهم بهاته الصفات العسير وجودها مجتمعة تأديب علمي على سوء فهمهم في التشريع كما يؤدَّب طالب العلم إذا سأل سؤالاً لايليق برتبته في العلم‏.‏ وقد قال عمر لأبي عبيدة في واقعة الفرار من الطاعون «لو غيرك قالها يا أبا عبيدة»‏.‏ ومن ضروب التأديب الحمل على عمل شاق، وقد أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه عباساً رضي الله عنه على الحرص حين حمل من خمس مال المغنم أكثر من حاجته فلم يستطع أن يقله فقال له‏:‏ مر أحداً رفعه لي فقال‏:‏ لا آمر أحداً فقال له‏:‏ ارفعه أنت لي فقال‏:‏ لا، حتى جعل العباس يحثو من المال ويرجعه لصبرته إلى أن استطاع أن يحمل ما بقي فذهب والنبيء صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره تعجباً من حرصه كما في «صحيح البخاري»‏.‏

ومما يدل على أنه تكليف لقصد التأديب أن الآية سيقت مساق الذم لهم، وعدت القصة في عداد قصص مساويهم وسوءِ تلقيهم للشريعة بأصناف من التقصير عملاً وشكراً وفهماً بدليل قوله تعالى آخر الآيات‏:‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 71‏]‏ مع ما روي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ لو ذبحوا أي بقرة أجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم‏.‏

وبهذا تعلمون أن ليس في الآية دليل على تأخير البيان عن وقت الخطاب ولا على وقوع النسخ قبل التمكن لأن ما طرأ تكليف خاص للإعنات، على أن الزيادة على النص ليست بنسخ عند المحققين، وتسميتها بالنسخ اصطلاح القدماء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

سألوا ب ‏(‏ما‏)‏ عن ماهية اللون وجنسه لأنه ثاني شيء تتعلق به أغراض الراغبين في الحيوان‏.‏ والقول في جزم‏:‏ ‏{‏يبين‏}‏ وفي تأكيد ‏{‏إنه يقول إنها بقرة‏}‏ كالقول في الذي تقدم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏صفراء فاقع لونها‏}‏ احتيج إلى تأكيد الصفرة بالفقوع وهو شدة الصفرة لأن صفرة البقر تقرب من الحمرة غالباً فأكده بفاقع والفقوع خاص بالصفرة، كما اختص الأحمر بقان والأسود بحالك، والأبيض بيقق، والأخضر بمدهامّ، والأورق بخطباني ‏(‏نسبة إلى الخطبان بضم الخاء وهو نبت كالهليون‏)‏، والأرمك وهو الذي لونه لون الرماد بُردَاني ‏(‏براء في أوله‏)‏ والردان الزعفران كذا في الطيبي ‏(‏ووقع في «الكشاف» و«الطيبي» بألف بعد الدال ووقع في «القاموس» أنه بوزن صاحب‏)‏ وضبط الراء في نسخة من «الكشاف» ونسخة من «حاشية القطب» عليه ونسخة من «حاشية الهمداني» عليه بشكل ضمة على الراء وهو مخالف لما في «القاموس»‏.‏

والنصوع يعم جميع الألوان، وهوخلوص اللون من أن يخالطه لون آخر‏.‏

ولونها إما فاعل بفاقع أو مبتدأ مؤخر وإضافته لضمير البقرة دلت على أنه اللون الأصفر فكان وصفه بفاقع وصفاً حقيقياً ولكن عدل عن أن يقال صفراء فاقعة إلى ‏{‏صفراء فاقع لونها‏}‏ ليحصل وصفها بالفقوع مرتين إذ وُصف اللون بالفقوع، ثم لما كان اللون مضافاً لضمير الصفراء كان ما يجري عليه من الأوصاف جارياً على سببيه ‏(‏على نحوما قاله صاحب «المفتاح» في كون المسند فعلاً من أن الفعل يستند إلى الضمير ابتداء ثم بواسطة عود ذلك الضمير إلى المبتدأ يستند إلى المبتدأ في الدرجة الثانية‏)‏ وقد ظن الطيبي في «شرح الكشاف» أن كلام صاحب «الكشاف» مشير إلى أن إسناد ‏(‏فاقع‏)‏ للونها مجاز عقلي وهو وهم إذ ليس من المجاز العقلي في شيء‏.‏ وأما تمثيل صاحب «الكشاف» بقوله جد جده فهو تنظير في مجرد إفادة التأكيد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تسر الناظرين‏}‏ أي تُدخل رؤيتها عليهم مسرة في نفوسهم، والمسرة لذة نفسية تنشأ عن الإحساس بالملائم أو عن اعتقاد حصوله ومما يوجبها التعجب من الشيء والإعجاب به‏.‏ وهذا اللون من أحسن ألوان البقر فلذلك أسند فعل ‏{‏تسر‏}‏ إلى ضمير البقرة لا إلى ضمير اللون فلا يقتضي أن لون الأصفر مما يسر الناظرين مطلقاً‏.‏ والتعبير بالناظرين دون الناس ونحوه للإشارة إلى أن المسرة تدخل عليهم عند النظر إليها من باب استفادة التعليل من التعليق بالمشتق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏للهقَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِىَ إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ‏}‏ ‏{‏قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الارض وَلاَ تَسْقِى الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الھان جِئْتَ بالحق‏}‏‏.‏

القول في ‏{‏ما هي‏}‏ كالقول في نظيره، فإن كان الله تعالى حكى مرادف كلامهم بلغة العرب فالجواب لهم ب ‏{‏أنها بقرة لا ذلول‏}‏ لما عُلم من أنه لم يبق من الصفات التي تتعلق الأغراض بها إلا الكرامة والنفاسة، وإن كان المحكي في القرآن اختصاراً لكلامهم فالأمر ظاهر‏.‏ على أن الله قد علم مرادهم فأنبأهم به‏.‏

وجملة ‏{‏إن البقرة تشابه علينا‏}‏ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنهم علموا أن إعادتهم السؤال توقع في نفس موسى تساؤلاً عن سبب هذا التكرير في السؤال، وقولهم ‏{‏إن البقرة تشابه علينا‏}‏ اعتذار عن إعادة السؤال، وإنما لم يعتذروا في المرتين الأوليين واعتذروا الآن لأن للثالثة في التكرير وقعاً في النفس في التأكيد والسآمة وغير ذلك ولذلك كثر في أحوال البشر وشرائعهم التوقيت بالثلاثة‏.‏

وقد جيء بحرف التأكيد في خبر لا يشك موسى في صدقه فتعين أن يكون الإتيان بحرف التأكيد لمجرد الاهتمام ثم يتوسل بالاهتمام إلى إفادة معنى التفريع والتعليل فتفيد ‏(‏إن‏)‏ مفاد فاء التفريع والتسبب وهو ما اعتنى الشيخ عبد القاهر بالتنبيه عليه في «دلائل الإعجاز» ومثله بقول بشار‏:‏

بَكّرا صاحِبَيَّ قبْلَ الهَجير *** إن ذاك النجاحَ في التبكير

تقدم ذكرها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنك أنت العليم الحكيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 32‏]‏ في هذه السورة وذكر فيه قصة‏.‏

وقولهم‏:‏ ‏{‏وإنا إن شاء الله لمهتدون تنشيط لموسى ووعد له بالامتثال لينشط إلى دعاء ربه بالبيان ولتندفع عنه سآمة مراجعتهم التي ظهرت بوارقها في قوله‏:‏ فافعلوا ما تؤمرون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 68‏]‏ ولإظهار حسن المقصد من كثرة السؤال وأن ليس قصدهم الإعنات‏.‏ تفادياً من غضب موسى عليهم‏.‏

والتعليق ب ‏{‏إن شاء الله‏}‏ للتأدب مع الله في رد الأمر إليه في طلب حصول الخير‏.‏

والقول في وجه التأكيد في ‏{‏إنه يقول إنها بقرة‏}‏ كالقول في نظيره الأول‏.‏

والذلول بفتح الذال فعول من ذل ذلاً بكسر الذال في المصدر بمعنى لان وسهل‏.‏ وأما الذل بضم الذال فهو ضد العز وهما مصدران لفعل واحد خص الاستعمال أحد المصدرين بأحد المعنيين‏.‏ والمعنى إنها لم تبلغ سن أن يحرث عليها وأن يسقى بجرها أي هي عجلة قاربت هذا السن وهو الموافق لما حدد به سنها في التوراة‏.‏

و ‏{‏لا ذلول‏}‏ صفة لبقرة‏.‏ وجملة ‏{‏تثير الأرض‏}‏ حال من ‏{‏ذلول‏}‏‏.‏

وإثارة الأرض حرثها وقلب داخل ترابها ظاهراً وظاهره باطناً، أطلق على الحرث فعل الإثارة تشبيهاً لانقلال أجزاء الأرض بثورة الشيء من مكانه إلى مكان آخر كما قال تعالى‏:‏

‏{‏فتثير سحاباً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏ أي تبعثه وتنقله ونظير هذا الاستعمال قوله في سورة الروم ‏(‏9‏)‏‏:‏ ‏{‏وأثاروا الأرض ولا تسقي الحرث‏}‏ في محل نصب على الحال‏.‏

وإقحام ‏(‏لا‏)‏ بعد حرف العطف في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تسقي الحرث‏}‏ مع أن حرف العطف على المنفي بها يغني عن إعادتها إنما هو لمراعاة الاستعمال الفصيح في كل وصف أو ما في معناه أدخل فيه حرف لا كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا فارض ولا بكر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 68‏]‏ فإنه لما قيدت صفة ذلول بجملة تسقى الحرث صار تقدير الكلام أنها بقرة لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث فجرت الآية على الاستعمال الفصيح من إعادة ‏(‏لا‏)‏ وبذلك لم تكن في هذه الآية حجة للمبرد كما يظهر بالتأمل‏.‏

واختير الفعل المضارع في ‏(‏تثير‏)‏ و‏(‏تسقي‏)‏ لأنه الأنسب بذلول إذ الوصف شبيه بالمضارع ولأن المضارع دال على الحال‏.‏

و ‏(‏مسلمة‏)‏ أي سليمة من عيوب نوعها فهو اسم مفعول من سلمت المبني للمفعول وكثيراً ما تذكر الصفات التي تعرض في أصل الخلقة بصيغة البناء للمجهول في الفعل والوصف إذ لا يخطر على باب المتكلم تعيين فاعل ذلك، ومن هذا معظم الأفعال التي التزم فيها البناء للمجهول‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لا شية فيها‏}‏ صفة أخرى تميز هذه البقرة عن غيرها‏.‏ والشية العلامة وهي بزنة فعلة من وشى الثوب إذا نسجه ألواناً وأصل شية وِشية ويقول العرب ثوب موشى وثوب وشي، ويقولون‏:‏ ثور موشى الأكارع لأن في أكارع ثور الوحش سواد يخالط صفرته فهو ثور أشية ونظائره قولهم فرس أبلق، وكبش أدرع، وتيس أزرق وغراب أبقع، بمعنى مختلط لونين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قالوا الآن جئت بالحق‏}‏ أرادوا بالحق الأمر الثابت الذي لا احتمال فيه كما تقول جاء بالأمر على وجهه، ولم يريدوا من الحق ضد الباطل لأنهم ما كانوا يكذبون نبيهم‏.‏

فإن قلت‏:‏ لماذا ذكر هنا بلفظ الحق‏؟‏ وهلا قيل قالوا‏:‏ الآن جئت بالبيان أو بالثبت‏؟‏

قلت‏:‏ لعل الآية حكت معنى ما عبر عنه اليهود لموسى بلفظ هو في لغتهم محتمل للوجهين فحكى بما يرادفه من العربية تنبيهاً على قلة اهتمامهم بانتقاء الألفاظ النزيهة في مخاطبة أنبيائهم وكبرائهم كما كانوا يقولون للنبيء صلى الله عليه وسلم ‏{‏راعنا‏}‏، فنهينا نحن عن أن نقوله بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 104‏]‏ وهم لقلة جدارتهم بفهم الشرائع قد توهموا أن في الأمر بذبح بقرة دون بيان صفاتها تقصيراً كأنهم ظنوا الأمر بالذبح كالأمر بالشراء فجعلوا يستوصفونها بجميع الصفات واستكملوا موسى لما بين لهم الصفات التي تختلف بها أغراض الناس في الكسب للبقر ظناً منهم أن في علم النبيء بهذه الأغراض الدنيوية كمالاً فيه، فلذا مدحوه بعد البيان بقولهم ‏{‏الآن جئت بالحق‏}‏ كما يقول الممتحن للتلميذ بعد جمع صور السؤال‏:‏ الآن أصبت الجواب، ولعلهم كانوا لا يفرقون بين الوصف الطردي وغيره في التشريع، فليحذر المسلمون أن يقعوا في فهم الدين على شيء مما وقع فيه أولئك وذموا لأجله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

عطفت الفاء جملة ‏{‏فذبحوها‏}‏ على مقدر معلوم وهو فوجدوها أو فظفروا بها أو نحو ذلك وهذا من إيجاز الحذف الاقتصاري، ولما ناب المعطوف في الموقع عن المعطوف عليه صح أن نقول الفاء فيه للفصيحة لأنها وقعت موقع جملة محذوفة فيها فاء للفصيحة ولك أن تقول إن فاء الفصيحة ما أفصحت عن مقدر مطلقاً كما تقدم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون‏}‏ تعريض بهم بذكر حال من سوء تلقيهم الشريعة، تارة بالإعراض والتفريط، وتارة بكثرة التوقف والإفراط، وفيه تعليم للمسلمين بأصول التفقه في الشريعة، والأخذ بالأوصاف المؤثرة في معنى التشريع دون الأوصاف الطردية، ولذلك قال ابن عباس‏:‏ لو ذبحوا أية بقرة لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم‏.‏ وروى ابن مردويه والبزار وابن أبي حاتم بسندهم إلى الحسن البصري عن رافع عن أبي هريرة أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لو اعترضوا أدنى بقرة فدبحوها لكفتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم ‏"‏ وفي سنده عبادة بن منصور وهوضعيف، وكان النبيء صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه عن كثرة السؤال وقال‏:‏ «فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» وبين للذي سأله عن اللقطة ما يفعله في شأنها فقال السائل‏:‏ فضالّة الغنم قال‏:‏ «هي لك أو لأخيك أو للذئب، قال السائل فضالة الإبل فغضب رسول الله وقال مالك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها تشرب الماء وترعى الشجر حتى يأتيها ربها»‏.‏

وجملة‏:‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون‏}‏ تحتمل الحال والاستئناف، والأول أظهر لأنه أشد ربطاً للجملة وذلك أصل الجمل أي ذبحوها في حال تقرب من حال من لا يفعل، والمعنى أنهم ذبحوها مكرهين أو كالمكرهين لما أظهروا من المماطلة وبذلك يكون وقت الذبح ووقت الاتصاف بمقاربة انتفائه وقتاً متحداً اتحاداً عرفياً بحسب المقامات الخطابية للإشارة إلى أن مماطلتهم قارنت أول أزمنة الذبح‏.‏ وعلى الاستئناف يصح اختلاف الزمنين أي فذبحوها عند ذلك أي عند إتمام الصفات، وكان شأنهم قبل ذلك شأن من لم يقارب أن يفعل‏.‏

ثم إن ‏{‏ما كادوا يفعلون‏}‏ يقتضي بحسب الوضع نفي مدلول كاد فإن مدلولها المقاربة ونفي مقاربة الفعل يقتضي عدم وقوعه بالأولى فيقال أنى يجتمع ذلك مع وقوع ذبحها بقوله‏:‏ ‏{‏فذبحوها‏}‏‏؟‏ فأما على وجه الاستئناف فيمكن الجواب بأن نفي مقاربة الفعل كان قبل الذبح حين كرروا السؤال وأظهروا المطال ثم وقع الذبح بعد ذلك، وقد أجاب بمثل هذا جماعة يعنون كأن الفعل وقع فجأة بعد أن كانوا بمعزل عنه على أنه مبني على جعل الواو استئنافاً وقد علمتم بعده‏.‏

فالوجه القالع للإشكال هو أن أئمة العربية قد اختلفوا في مفاد كاد المنفية في نحو ما كاد يفعل فذهب قوم منهم الزجاجي إلى أن نفيها يدل على نفي مقاربة الفعل وهو دليل على انتفاء وقوع الفعل بالأولى فيكون إثبات كاد نفياً لوقوع الخبر الذي في قولك كاد يقوم أي قارب فإنه لا يقال إلا إذا قارب ولم يفعل ونفيها نفياً للفعل بطريق فحوى الخطاب فهو كالمنطوق وأن ما وردمما يوهم خلاف ذلك مؤول بأنه باعتبار وقتين فيكون بمنزلة كلامين ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون‏}‏ في هذه الآية أي فذبحوها الآن وما كادوا يفعلون قبل ذلك، ولعلهم يجعلون الجمع بين خبرين متنافيين في الصورة قرينة على قصد زمانين، وإلى هذا ذهب ابن مالك في «الكافية» إذ قال‏:‏

وبثُبوت كاد يُنفَى الخبرُ *** وحينَ ينفى كادَ ذاك أَجدر

وغير ذَا على كَلاَمَيْن يَرِدْ *** كَوَلَدَتْ هند ولم تَكَد تَلِد

وهذا المذهب وقوف مع قياس الوضع‏.‏

وذهب قوم إلى أن إثبات كاد يستلزم نفي الخبر على الوجه الذي قررناه في تقرير المذهب الأول وأن نفيها يصير إثباتاً على خلاف القياس وقد اشتهر هذا بين أهل الأعراب حتى ألغز فيه أبو العلاء المعري بقوله‏:‏

أَنْحويَّ هذا العَصر ما هي لفظة *** أنت في لسانَيْ جُرهم وثَمود

إذا استُعْمِلَتْ في صورة الجَحْدِ أَثْبَتَتْ *** وإن أُثْبِتَتْ قامت مقامَ جُحُود

وقد احتجوا لذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذبحوها وما كادوا يفعلون‏}‏ وهذا من غرائب الاستعمال الجاري على خلاف الوضع اللغوي‏.‏

وقد جرت في هذا نادرة أدبية ذكرها الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» وهي أن عنبسة العنسي الشاعر قال‏:‏ قدم ذو الرمة الكوفة فوقف على ناقته بالكناسة ينشد قصيدته الحائية التي أولها‏:‏

أَمَنْزِلَتَيْ مَيَ سلام عليكم *** على النَّأْي والنَّائِي يَوَدُّ وينصَح

حتى بلغ قوله فيها‏:‏

إذا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحبين لم يَكَدُ *** رَسِيسُ الهَوَى من حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ

وكان في الحاضرين ابن شبرمة فناداه ابن شبرمة يا غيلان أراه قد برح قال‏:‏ فشنق ناقته وجعل يتأخر بها ويتفكر ثم قال‏:‏ «لم أجد» عوض «لم يكد» قال عنبسة‏:‏ فلما انصرفت حدثت أبي فقال لي‏:‏ أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غَيَّر شعره لقول ابن شبرمة‏:‏ إنما هذا كقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يَكَدْ يراها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏ وإنما هو لم يرها ولم يكد‏.‏

وذهب قوم منهم أبو الفتح بن جني وعبد القاهر وابن مالك في «التسهيل» إلى أن أصل كاد أن يكون نفيها لنفي الفعل بالأولى كما قال الجمهور إلا أنها قد يستعمل نفيها للدلالة على وقوع الفعل بعد بطء وجهد وبعد أن كان بعيداً في الظن أن يقع وأشار عبد القاهر إلى أن ذلك استعمال جرى في العرف وهو يريد بذلك أنها مجاز تمثيلي بأن تشبه حالة من فعل الأمر بعد عناء بحالة من بعد عن الفعل فاستعمل المركب الدال على حالة المشبه به في حالة المشبه، ولعلهم يجعلون نحو قوله ‏{‏فذبحوها‏}‏ قرينة على هذا القصد‏.‏

قال في «التسهيل»‏:‏ «وتنفي كاد إعلاماً بوقوع الفعل عسيراً أو بعدمه وعدم مقاربته» واعتذر في ‏{‏شرحه للتسهيل‏}‏ عن ذي الرمة في تغييره بيته بأنه غيره لدفع احتمال هذا الاستعمال‏.‏

وذهب قوم إلى أن كاد إن نفيت بصيغة المضارع فهي لنفي المقاربة وإن نفيت بصيغة الماضي فهي للإثبات وشبهته أن جاءت كذلك في الآيتين ‏{‏لم يكد يراها‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون وأن نفي الفعل الماضي لا يستلزم الاستمرار إلى زمن الحال بخلاف نفي المضارع‏.‏ وزعم بعضهم أن قولهم ما كاد يفعل وهم يريدون أنه كاد ما يفعل إن ذلك من قبيل القلب الشائع‏.‏

وعندي أن الحق هو المذهب الثاني وهو أن نفيها في معنى الإثبات وذلك لأنهم لما وجدوها في حالة الإثبات مفيدة معنى النفي جعلوا نفيها بالعكس كما فعلوا في لو ولولا ويشهد لذلك مواضع استعمال نفيها فإنك تجد جميعها بمعنى مقاربة النفي لا نفي المقاربة ولعل ذلك من قبيل القلب المطرد فيكون قولهم ما كاد يفعل ولم يكد يفعل بمعنى كاد ما يفعل، ولا يبعد أن يكون هذا الاستعمال من بقايا لغة قديمة من العربية تجعل حرف النفي الذي حقه التأخير مقدماً ولعل هذا الذي أشار إليه المعري بقوله‏:‏ جرت في لساني جرهم وثمود ويشهد لكون ذلك هو المراد تغيير ذي الرمة بيته وهو من أهل اللسان وأصحاب الذوق، فإنه وإن كان من عصر المولدين إلا أنه لانقطاعه إلى سكنى باديته كان في مرتبة شعراء العرب حتى عد فيمن يحتج بشعره، وما كان مثله ليغير شعره بعد التفكر لو كان لصحته وجه فما اعتذر به عنه ابن مالك في شرح التسهيل‏}‏ ضعيف‏.‏ وأما دعوى المجاز فيه فيضعفها اطراد هذا الاستعمال حتى في آية ‏{‏لم يكد يراها‏}‏ فإن الواقف في الظلام إذا مد يده يراها بعناء وقال تأبط شراً «فأُبت إلى فهم وما كدت آيباً» وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يكاد يبين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏وما كادوا يفعلون ولم يقل يذبحون كراهية إعادة اللفظ تفنناً في البيان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 73‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ‏(‏72‏)‏ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

تصديره بإذ على طريقة حكاية ما سبق من تعداد النعم والألطاف ومقابلتهم إياها بالكفران والاستخفاف يومئ إلى أن هذه قصة غير قصة الذبح ولكنها حدثت عقب الأمر بالذبح لإظهار شيء من حكمة ذلك الأمر الذي أظهروا استنكاره عند سماعه إذ قالوا ‏{‏أتتخذنا هزؤاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏ وفي ذلك إظهار معجزة لموسى‏.‏ وقد قيل إن ما حكى في هذه الآية هو أول القصة وإن ما تقدم هو آخرها، وذكروا للتقديم نكتة تقدم القول في بيانها وتوهينها‏.‏

وليس فيما رأيت من كتب اليهودما يشير إلى هذه القصة فلعلها مما أدمج في قصة البقرة المتقدمة لم تتعرض السورة لذكرها لأنها كانت معجزة لموسى عليه السلام ولم تكن تشريعاً بعده‏.‏

وأشار قوله‏:‏ ‏{‏قتلتم‏}‏ إلى وقوع قتل فيهم وهي طريقة القرآن في إسناد أفعال البعض إلى الجميع جرياً على طريقة العرب في قولهم‏:‏ قتلت بنو فلان فلاناً، قال النابغة يذكر بني حُنّ‏:‏

وهم قتلوا الطائي بالجو عنوة *** أباجابر واستنكحوا أم جابر

وذلك أن نفراً من اليهود قتلوا ابن عمهم الوحيد ليرثوا عمهم وطرحوه في محلة قوم وجاءوا موسى يطالبون بدم ابن عمهم بهتاناً وأنكر المتهمون فأمره الله بأن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة فينطق ويخبر بقاتله، والنفس الواحد من الناس لأنه صاحب نفس أي روح وتنفس وهي مأخوذة من التنفس وفي الحديث «ما من نفس منفوسة» ولإشعارها بمعنى التنفس اختلف في جواز إطلاق النفس على الله وإضافتها إلى الله فقيل يجوز لقوله تعالى حكاية عن كلام عيسى‏:‏ ‏{‏تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ ولقوله في الحديث القدسي‏:‏ «وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» وقيل‏:‏ لا يجوز إلا للمشاكلة كما في الآية والحديث القدسي والظاهر الجواز ولا عبرة بأصل مأخذ الكلمة من التنفس فالنفس الذات قال تعالى‏:‏ ‏{‏يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 111‏]‏‏.‏ وتطلق النفس على روح الإنسان وإدراكه ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تعلم ما في نفسي‏}‏ وقول العرب قلت في نفسي أي في تفكري دون قول لفظي، ومنه إطلاق العلماء الكلام النفسي على المعاني التي في عقل المتكلم التي يعبر عنها باللفظ‏.‏

و ‏(‏ادَّارأْتم‏)‏ افتعال، وادارأتم أصله تدارأتم تفاعل من الدرء وهو الدفع لأن كل فريق يدفع الجناية عن نفسه فلما أريد إدغام التاء في الدال على قاعدة تاء الافتعال مع الدال والذال جلبت همزة الوصل لتيسير التسكين للإدغام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والله مخرج‏}‏ جملة حالية من ‏{‏ادارأتم‏}‏ أي تدارأتم في حال أن الله سيخرج ما كتمتموه فاسم الفاعل فيه للمستقبل باعتبار عامله وهو ‏{‏ادارأتم‏}‏‏.‏

والخطاب هنا على نحو الخطاب في الآيات السابقة المبني على تنزيل المخاطبين منزلة أسلافهم لحمل تبعتهم عليهم بناءً على ما تقرر من أن خُلُقَ السلف يسري إلى الخلف كما بيناه فيما مضى وسنبينه إن شاء الله تعالى عند قوله‏:‏

‏{‏أفتطمعون أن يؤمنوا لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏‏.‏

وإنما تعلقت إرادة الله تعالى بكشف حال قاتلي هذا القتيل مع أن دمه ليس بأول دم طل في الأمم إكراماً لموسى عليه السلام أن يضيع دم في قومه وهو بين أظهرهم وبمرأى منه ومسمع لا سيما وقد قصد القاتلون استغفال موسى ودبروا المكيدة في إظهارهم المطالبة بدمه فلو لم يظهر الله تعالى هذا الدم في أمة لضعف يقينها برسولها ولكان ذلك مما يزيدهم شكاً في صدقه فينقلبوا كافرين فكان إظهار هذا الدم كرامة لموسى ورحمة بالأمة لئلا تضل فلا يشكل عليكم أنه قد ضاع دم في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم كما في حديث حويصة ومحيصة الآتي لظهور الفرق بين الحالين بانتفاء تدبير المكيدة وانتفاء شك الأمة في رسولها وهي خير أمة أخرجت للناس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك يحي الله الموتى‏}‏ الإشارة إلى محذوف للإيجاز أي فضربوه فحيي فأخبر بمن قتله أي كذلك الإحياء يحي الله الموتى فالتشبيه في التحقق وإن كانت كيفية المشبه أقوى وأعظم لأنها حياة عن عدم بخلاف هاته فالمقصد من التشبيه بيان إمكان المشبه كقول المتنبي‏:‏

فإن تفق الأنام وأنت منهم *** فإن المسك بعض دم الغزال

وقوله‏:‏ ‏{‏كذلك يحي الله الموتى‏}‏ من بقية المقول لبني إسرائيل فيتعين أن يقدر وقلنا لهم كذلك يحي الله الموتى لأن الإشارة لشيء مشاهد لهم وليس هو اعتراضاً أريد به مخاطبة الأمة الإسلامية لأنهم لم يشاهدوا ذلك الإحياء حتى يشبه به إحياء الله الموتى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لعلكم تعقلون‏}‏ رجاء لأن يعقلوا فلم يبلغ الظن بهم مبلغ القطع مع هذه الدلائل كلها‏.‏

وقد جرت عادة فقهائنا أن يحتجوا بهذه الآية على مشروعية اعتبار قول المقتول‏:‏ دمي عند فلان موجباً للقسامة ويجعلون الاحتجاج بها لذلك متفرعاً على الاحتجاج بشرع من قبلنا، وفي ذلك تنبيه على أن محل الاستدلال بهذه الآية على مشروعية ذلك هو أن إحياء الميت لم يقصد منه إلاَّ سماع قوله فدل على أن قول المقتول كان معتبراً في أمر الدماء‏.‏ والتوراة قد أجملت أمر الدماء إجمالاً شديداً في قصة ذبح البقرة التي قدمناها، نعم إن الآية لا تدل على وقوع القسامة مع قول المقتول ولكنها تدل على اعتبار قول المقتول سبباً من أسباب القصاص، ولما كان الظن بتلك الشريعة أن لا يقتل أحد بمجرد الدعوى من المطعون تعين أن هنالك شيئاً تقوى به الدعوى وهو القسامة‏.‏

وقد أورد على احتجاج المالكية بها أن هذا من خوارق العادات وهي لا تفيد أحكاماً وأجاب ابن العربي بأن المعجزة في إحياء الميت فلما حيي صار كلامه ككلام سائر الأحياء، وهو جواب لطيف لكنه غير قاطع‏.‏

والخلاف في القضاء بالقسامة إثباتاً ونفياً وفي مقدار القضاء بها مبسوط في كتب الفقه وقد تقصاه القرطبي وليس من أغراض الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏(‏ثم‏)‏ هنا للترتيب الرتبي الذي تتهيأ له ‏(‏ثم‏)‏ إذا عَطفت الجمل، أي ومع ذلك كله لم تلن قلوبكم ولم تنفعكم الآيات ‏{‏فقست قلوبكم‏}‏ وكان من البعيد قسوتها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ زيادة تعجيب من طرق القساوة للقلب بعد تكرر جميع الآيات السابقة المشار إلى مجموعها بذلك على حد قول القطامي‏:‏

أكفراًبعد ردِّ الموتتِ عني *** وبعدَ عَطائك المائة الرِّتاعَا

أي كيف أكفر نعمتك أي لا أكفرها مع إنجائك لي من الموت إلخ‏.‏ ووجه استعمال ‏(‏بعد‏)‏ في هذا المعنى أنها مجاز في معنى ‏(‏مع‏)‏ لأن شأن المسبب، أن يتأخر عن السبب ولما لم يكن المقصد التنبيه على تأخره للعلم بذلك وأريد التنبيه على أنه معه إثباتاً أو نفياً عُبر ببعد عن معنى ‏(‏مع‏)‏ مع الإشارة إلى التأخر الرتبي‏.‏

والقسوة والقساوة توصف بها الأجسام وتوصف بها النفوس المعبر عنها بالقلوب فالمعنى الجامع للوصفين هو عدم قبول التحول عن الحالة الموجودة إلى حالة تخالفها‏.‏ وسواء كانت القساوة موضوعة للقدر المشترك بين هذين المعنيين الحسي والقلبي وهو احتمال ضعيف أم كانت موضوعة للأجسام حقيقة واستعملت في القلوب مجازاً وهو الصحيح، فقد شاع هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة وصار غير محتاج إلى القرينة فآل اللفظ إلى الدلالة على القدر المشترك بالاستعمال لا بأصل الوضع وقد دل على ذلك العطف في قوله‏:‏ ‏{‏أو أشد قسوة‏}‏ كما سيأتي‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فهي حجارة‏}‏ تشبيه فرع بالفاء لإرادة ظهور التشبيه بعدحكاية الحالة المعبر عنها بقست لأن القسوة هي وجه الشبه ولأن أشهر الأشياء في هذا الوصف هو الحجر فإذا ذكرت القسوة فقد تهيأ التشبيه بالحجر ولذا عطف بالفاء أي إذا علمت أنها قاسية فشبهها بالحجارة كقول النابغة يصف الحجيج‏:‏

عليهن شعثٌ عامدون لربهم *** فهُنَّ كأطراف الحَنِيِّ خواشع

وقد كانت صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر لأنها محسوسة فلذلك شبه بها، وهذا الأسلوب يسمى عندي تهيئة التشبيه وهو من محاسنه، وإذا تتبعت أساليب التشبيه في كلامهم تجدها على ضربين ضرب لا يهيأ فيه التشبيه وهو الغالب وضرب يهيأ فيه كما هنا والعطف بالفاء في مثله حسن جداً وأما أن يأتي المتكلم بما لا يناسب التشبيه فذلك عندي يعد مذموماً‏.‏ وقد رأيت بيتاً جمع تهيئة التشبيه والبعد عنه وهو قول ابن نباتة‏:‏

في الريق سُكْر وفي الأَصداغ تجعيد *** هذا المُدَام وهاتيك العناقيد

فإنه لما ذكر السكر تهيأ التشبيه بالخمر ولكن قوله‏:‏ تجعيد لا يناسب العناقيد‏.‏

فإن قلت لم عددته مذموماً وما هو إلا كتجريد الاستعارة‏؟‏

قلت‏:‏ لا لأن التجريد يجيء بعد تكرر الاستعارة وعلم بها فيكون تفنناً لطيفاً بخلاف ما يجيء قبل العلم بالتشبيه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أو أشد قسوة‏}‏ مرفوع على أنه خبر مبتدأ دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏فهي كالحجارة‏}‏ و‏(‏أو‏)‏ بمعنى بل الانتقالية لتوفر شرطها وهوكون معطوفها جملة‏.‏

وهذا المعنى متولدمن معنى التخيير الموضوعة له ‏(‏أو‏)‏ لأن الانتقال ينشأ عن التخيير فإن القلوب بعد أن شبهت بالحجارة وكان الشأن يكون المشبه أضعف في الوصف من المشبه به يُبنى على ذلك ابتداءُ التشبيه بما هو أشهر ثم عقب التشبيه بالترقي إلى التفضيل في وجه الشبه على حد قول ذي الرمة‏:‏

بَدَتْ مثل قرن الشمس في رونق الضُّحى *** وصورتِها أو أنتتِ في العين أَمْلَح

فليست ‏(‏أو‏)‏ للتخيير في التشبيه أي ليست عاطفة على قوله الحجارة المجرورة بالكاف لأن تلك لها موقع مَا إذا كُرر المشبه به كما قدمناه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أوْ كصيب من السماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 19‏]‏‏.‏ ويجوز أن تكون للتخيير في الأخبار عطفاً على الخبر الذي هو ‏{‏كالحجارة‏}‏ أي فهي مثل الحجارة أو هي أقوى من الحجارة والمقصود من التخيير أن المتكلم يشير إلى أنه لا يرمي بكلامه جزافاً ولا يذمهم تحاملاً بل هومتثبت متحر في شأنهم فلا يُثْبِت لهم إلا ما تبين له بالاستقراء والتقصي فإنه ساواهم بالحجارة في وصف ثم تَقَصَّى فرأى أنهم فيه أقوى فكأنه يقول للمخاطب إن شئت فسَوِّهم بالحجارة في القسوة ولك أن تقول هم أشد منها وذلك يفيد مفاد الانتقال الذي تدل عليه بل وهو إنما يحسن في مقام الذم لأن فيه تلطفاً وأما في مقام المدح فالأحسن هو التعبير ببل كقول الفرزدق‏:‏

فقالت لنا أهلاً وسهلاً وزوَّدَتْ *** جَنَى النَّحْل بل ما زوّدتْ منه أطيب

ووجه تفضيل تلك القلوب على الحجارة في القساوة أن القساوة التي اتصفت بها القلوب مع كونها نوعاً مغايراً لنوع قساوة الحجارة قد اشتركا في جنس القساوة الراجعة إلى معنى عدم قبول التحول كما تقدم فهذه القلوب قساوتها عند التمحيص أشد من قساوة الحجارة لأن الحجارة قد يعتريها التحول عن صلابتها وشدتها بالتفرق والتشقق وهذه القلوب لم تُجْدِ فيها محاولة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإن من الحجارة لما يتفجَّر‏}‏ إلخ تعليل لوجه التفضيل إذ من شأنه أن يُستغرب، وموقع هذه الواو الأولى في قوله‏:‏ ‏{‏وإن من الحجارة‏}‏ عسير فقيل‏:‏ هي للحال من الحجارة المقدَّرة بعد ‏(‏أَشَد‏)‏ أي أشد من الحجارة قسوةً، أي تفضيل القلوب على الحجارة في القسوة يظهرُ في هذه الأحوال التي وُصِفت بها الحجارة ومعنى التقييد أن التفضيل أظهر في هذه الأحوال، وقيل هي الواوللعطف على قوله‏:‏ ‏{‏فهي كالحجارة أو أشد قسوة‏}‏ قاله التفتزاني، وكأنه يجعل مضمون هذه المعطوفات غير راجع إلى معنى تشبيه القلوب بالحجارة في القساوة بل يجعلها إخباراًعن مزايا فَضُلت بها الحجارة على قلوب هؤلاء بما يحصل عن هذه الحجارة من منافع في حين تُعطَّلُ قلوب هؤلاء من صدور النفع بها، وقيل‏:‏ الواو استئنافية وهو تذييل للجملة السابقة وفيه بعدكما صرح به ابن عرفة، والظاهر أنها الواو الاعتراضية وأن جملة ‏{‏وإن من الحجارة وما عطف عليها معترضاتٌ بين قوله‏:‏ ثم قست قلوبكم‏}‏ وبين جملة الحال منها وهي قوله‏:‏ ‏{‏وما الله بغافر عما تعملون‏}‏‏.‏

والتوكيد بإنَّ للاهتمام بالخبر وهذا الاهتمام يؤذن بالتعليل ووجود حرف العطف قبلها لا يُناكدُ ذلك كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن لكم ما سألتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61‏]‏‏.‏

ومن بديع التخلص تأخُّر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإنَّ منها لَمَا يهبط من خشية الله‏}‏ والتعبير عن التَسخُّر لأمر التكوين بالخشية ليتم ظهور تفضيل الحجارة على قلوبهم في أحوالها التي نهايتها الامتثال للأمر التكليفي مع تعاصي قلوبهم عن الامتثال للأمر التلكيفي ليتأتى الانتقال إلى قوله‏:‏ ‏{‏وما الله بغافل عما تعملون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أفتطعمون أن يؤمنوا لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏‏.‏

وقد أشارت الآية إلى أن انفجار الماء من الأرض من الصخور منحصر في هذين الحالين وذلك هو ما تقرر في علم الجغرافيا الطبيعية أن الماء النازل على الأرض يخرق الأرض بالتدريج لأن طبع الماء النزول إلى الأسفل جرياً على قاعدة الجاذبية فإذا أضغط عليه بثقل نفسه مِن تكاثُره أو بضاغطٍ آخرمن أهْوية الأرض تطلب الخروج حتى إذا بلغ طبقة صخرية أو صلصالية طفا هناك فالحجر الرملي يشرب الماء والصخور والصلصال لا يخرقها الماءُ إلا إذا كانت الصخور مركبة من مواد كلسية وكان الماءُ قد حمل في جريته أجزاء من معدن الحامض الفحمي فإن له قوة على تحليل الكلس فيحدث ثقباً في الصخور الكلسية حتى يخرقها فيخرج منها نابعاً كالعيون‏.‏ وإذا اجتمعت العيون في موضع نشأت عنها الأنهار كالنيل النابع من جبال القمر، وأما الصخور غير الكلسية فلا يفتتها الماء ولكن قد يعرض لها انشقاق بالزلازل أو بفلق الآلات فيخرج منها الماء إما إلى ظاهر الأرض كما نرى في الآبار وقد يخرج منها الماء إلى طبقة تحتها فيختزن تحتها حتى يخرج بحالة من الأحوال السابقة‏.‏ وقد يجد الماء في سيره قبل الدخول تحت الصخر أو بعدَه منفذاً إلى أرض ترابية فيخرج طافياً من سطح الصخور التي جرى فوقها‏.‏ وقد يجد الماء في سيره منخفضات في داخل الأرض فيستقر فيها ثم إذا انضمت إليه كميات أخرى تَطَلَّبَ الخروج بطريق من الطرق المتقدمة ولذلك يكثر أن تنفجر الأنهار عقب الزلازل‏.‏

والخشية في الحقيقة الخوفُ الباعث على تقوى الخائف غيرَه‏.‏ وهي حقيقة شرعية في امتثال الأمر التكليفي لأنها الباعث على الامتثال‏.‏ وجُعلت هنا مجازاً عن قبول الأمر التكويني إما مرسلاً بالإطلاق والتقييد، وإما تمثيلاً للهيئة عند التكوين بهيئة المكلَّف إذ ليست للحجارة خشية إذ لا عقل لها‏.‏ وقد قيل إن إسناد ‏(‏يهبط‏)‏ للحجر مجاز عقلي والمراد هبوط القلوب أي قلوب الناظرين إلى الصخور والجبال أي خضوعها فأسند الهبوط إليها لأنها سببه كما قالوا ناقة تاجرة أي تبعث من يراها على المساومة فيها‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وما الله بغافل عما تعملون‏}‏ تذييل في محل الحال أي فعلتم ما فعلتم وما الله بغافل عن كل صنعكم‏.‏

وقد قرأه الجمهور بالتاء الفوقية تكملة خطاب بني إسرائيل، وقرأ ابن كثير ويعقوب وخلف ‏(‏يعملون‏)‏ بالياء التحتية وهو انتقال من خطابهم إلى خطاب المسلمين فلذلك غُيّر أسلوبه إلى الغيبة وليس ذلك من الالتفات لاختلاف مرجع الضميرين لأن تفريع قوله‏:‏ ‏{‏أفتطمعون أن يؤمنوا لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏ عليه دل على أن الكلام نقل من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المسلمين‏.‏ وهو خبر مرادبه التهديد والوعيد لهم مباشرة أو تعريضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

هذا اعتراض استطرادي بين القصة الماضية والقصة التي أولها‏:‏ ‏{‏وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تَعبدون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 83‏]‏ فجميع الجمل من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفتطمعون إلى قوله‏:‏ وإذ أخذنا‏}‏ داخلة في هذا الاستطراد‏.‏

والفاء لتفريع الاستفهام الإنكاري أو التعجيبي على جملة ‏{‏ثم قست‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 74‏]‏ أو على مجموع الجمل السابقة لأن جميعها مما يقتضي اليأس من إيمانهم بما جاء به النبيء صلى الله عليه وسلم فكأنَّه قيل‏:‏ فلا تطمعوا أن يؤمنوا لكم أو فَاعْجَبُوا من طمعكم، وسيأتي تحقيق موقع الاستفهام مع حرف العطف في مثله عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 87‏]‏‏.‏

والطمع ترقب حصول شيء محبوب وهو يرادف الرجاء وهو ضد اليأس، والطمع يتعدى بفي حذفت هنا قبل ‏(‏أَنْ‏)‏‏.‏

فإن قلت، كيف يُنهى عن الطمع في إيمانهم أو يُعَجَّب به والنبيء والمسلمون مأمورون بدعوة أولئك إلى الإيمان دائماً‏؟‏ وهل لمعنى هذه الآية ارتباط بمسألة التكليف بالمحال الذي استحالته لتعلق عِلْمِ الله بعدم وقوعه‏؟‏

قلت‏:‏ إنما نُهينا عن الطمع في إيمانهم لا عن دعائهم للإيمان لأننا ندعوهم للإيمان وإن كنا آيسين منه لإقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم وفي الآخرة أيضاً، ولأن الدعوة إلى الحق قد تصادف نفساً نيّرة فتنفعها، فإن استبعاد إيمانه حُكم على غالبهم وجَمْهَرتهم أما الدعوة فإنها تقع على كل فرد منهم والمسألة أخص من تلكَ المسألة لأن مسألة التكليف بالمحال لتعلق العلم بعدم وقوعه مفروضة فيما عَلِمَ الله عدَم وقوعه وتلك قد كنا أجبنا لكم فيها جواباً واضحاً وهو أن الله تعالى وإن عَلِمَ عدم إيمان مثل أبي جهل إلا أنه لم يطلعنا على ما عَلمه فيه والأوامر الشرعية لم تجيءْ بتخصيص أحد بدعوة حتى يقال كيف أُمر مع علم الله بأنه لا يؤمن، وأما هذه الآية فقد أظهرت نفي الطماعية في إيمان من كان دأبهم هذه الأحوال فالجواب عنها يرجع إلى الجواب الأعم وهوأن الدعاء لأجل إقامة الحجة وهو الجواب الأعم لأصحابنا في مسألة التكليف بما علم الله عدم وقوعه، على أن بعض أحوالهم قد تتغير فيكون للطماعية بعدَ ذلك حظ‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لكم‏}‏ لتضمين ‏{‏يؤمنوا‏}‏ معنى يُقِرُّوا وكأنَّ فيه تلميحاً إلى أن إيمانهم بصدق الرسول حاصل ولكنهم يكابرون ويجحدون على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 146‏]‏ الآية فما أبدعَ نسج القرآن‏.‏ ويجوز حمل اللام على التعليل وجعل ‏{‏يؤمنوا‏}‏ مُنزَّلاً منزلة اللازم تعريضاً بهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الذي جاءهم على ألسنة أنبيائهم وهم أخص الناس بهم أفتطمعون أن يعترفوا به لأجلكم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله‏}‏ جملة حالية هي قيدُ إنكار الطمع في إيمانهم فيكون قد عُلل هذا الإنكار بعلتين إحداهما بالتفريع على ما عَلِمْناه، والثانية بالتقييد بما عَلَّمَنَاه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فريق منهم‏}‏ يحتمل أن يريد من قومهم الأقدمين أومن الحاضرين في زمن نزول الآية‏.‏

وسماعهم كلامَ الله على التقديرين هو سماع الوحي بواسطة الرسول إن كان الفريق من الذين كانوا زمن موسى أو بواسطة النقل إن كان من الذين جاءوا من بعده‏.‏ أما سماع كلام الله مباشرة فلم يقع إلا لموسى عليه السلام‏.‏ وأيًّا ما كان فالمقصود بهذا الفريق جمع من علمائهم دون عامتهم‏.‏

والتحريف أصله مصدر حَرَّف الشيء إذا مال به إلى الحرف وهو يقتضي الخروج عن جادة الطريق، ولمَّا شاع تشبيه الحق والصواب والرشد والمكارم بالجادة وبالصراط المستقيم شاع في عكسه تشبيه ما خالف ذلك بالانحراف وببنيات الطريق‏.‏ قال الأشتر‏:‏

بقَّيْتُ وفْرى وانحرفتُ عن العُلا *** ولَقِيتُ أَضْيَافِي بوَجْهٍ عَبُوسٍ

ومن فروع هذا التشبيه قولهم‏:‏ زَاغ، وحاد ومَرق، وألْحَد وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏‏.‏ فالمراد بالتحريف إخراج الوحي والشريعة عما جاءت به، إما بتبديل وهو قليل وإما بكتمان بعض وتناسيه وإما بالتأويل البعيد وهو أكثر أنواع التحريف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وهم يعلمون‏}‏ حال من ‏{‏فريق‏}‏ وهو قيد في القَيد يعني يسمعونه ثم يعقلونه ثم يحرفونه وهم يعلمون أنهم يحرفون، وأن قوماً توارثوا هذه الصفة لا يطمع في إيمانهم لأن الذين فعلوا هذا إما أن يكونوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو بني عمهم فالغالب أن يكون خلقهم واحداً وطباعهم متقاربة كما قال نوح عليه السلام‏:‏ ‏{‏ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 27‏]‏ وللعرب والحكماء في هذا المعنى أقوال كثيرة مرجعها إلى أن الطباع تورث، ولذلك كانوا يصفون القبيلة بصفات جمهورها، أو أراد بالفريق علماءهم وأحبارهم، فالمراد لا طمع لكم في إيمان قوم هذه صفات خاصتهم وعلمائهم فكيف ظنكم بصفات دهمائمهم لأن الخاصة في كل أمة هم مظهر محامدها وكمالاتها فإذا بلغت الخاصة في الانحطاط مبلغاً شنيعاً فاعلم أن العامة أفظع وأشنع، وأراد بالعامة الموجودين منهم زمن القرآن لأنهم وإن كان فيهم علماء إلا أنهم كالعامة في سوء النظر ووهن الوازع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏76- 77‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏76‏)‏ أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

الأظهر أن الضمير في ‏{‏لقوا‏}‏ عائد على بني إسرائيل على نسق الضمائر السابقة في قوله‏:‏ ‏{‏أفتطمعون أن يؤمنوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏ وما بعده، وأن الضمير المرفوع بقالوا عائد عليهم باعتبار فريق منهم وهم الذين أظهروا الإيمان نفاق أو تفادياً من مر المقارعة والمحاجة بقرينة قوله‏:‏ ‏{‏آمنا‏}‏ وذلك كثير في ضمائر الأمم والقبائل ونحوها نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 232‏]‏ لأن ضمير ‏{‏طلقتم‏}‏ للمطلقين وضمير ‏{‏تعضلوا‏}‏ للأولياء لأن الجميع راجع إلى جهة واحدة وهي جهة المخاطبين من المسلمين لاشتمالهم على الصنفين، ومنه أن تقول لئن نزلت ببني فلان ليكرمنك وإنما يكرمك سادتهم وكرماؤهم ويكون الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏بعضهم‏}‏ عائد إلى الجميع أي بعض الجميع إلى بعض آخر ومعلوم أن القائل من لم ينافق لمن نافق، ثم تلتئم الضمائر بعد ذلك في ‏{‏يعلمون‏}‏ و‏{‏يُسرون‏}‏ و‏{‏يُعلنون‏}‏ بلا كلفة وإلى هذه الطريقة ذهب صاحب «الكشاف» ويرجحها عندي أن فيها الاقتصار على تأويل ما به الحاجة والتأويل عند وجود دليله بجنبه وهو ‏{‏آمنا‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏إذا لقوا‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏وقد كان فريق منهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏ على أنهم حال مثلها من أحوال اليهود وقد قصد منها تقييد النهي أو التعجيب من الطمع في إيمانهم فهو معطوف على الحال بتأويل وقد كان فريق منهم آخرُ إذا لقوا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا خلا بعضهم‏}‏ معطوف على ‏{‏إذا لقوا‏}‏ وهم المقصود من الحالية أي والحال أنهم يحصل منهم مجموع هذا لأن مجرد قولهم ‏{‏آمنا‏}‏ لا يكون سبباً للتعجب من الطمع في إيمانهم فضمير ‏{‏بعضهم‏}‏ راجع إلى ما رجع إليه ‏{‏لقوا‏}‏ وهم عموم اليهود‏.‏ ونكتة التعبير ب ‏{‏قالوا آمنا‏}‏ مثلها في نظيره السابق في أوائل السورة ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أتحدثونهم‏}‏ استفهام للإنكار أو التقرير أو التوبيخ بقرينة أن المقام دل على أنهم جرى بينهم حديث في ما ينزل من القرآن فاضحاً لأحوال أسلافهم ومثالب سيرتهم مع أنبيائهم وشريعتهم‏.‏ والظاهر عندي أن معناه أنهم لما سمعوا من القرآن ما فيه فضيحة أحوالهم وذكر ما لا يعلمه إلا خاصتهم ظنوا أن ذلك خلص للنبيء من بعض الذين أظهروا الإيمان من أتباعهم وأن نفاقهم كان قد بلغ بهم إلى أن أخبروا المسلمين ببعض قصص قومهم ستراً لكفرهم الباطن فوبخوهم على ذلك توبيخ إنكار أي كيف يبلغ بكم النفاق إلى هذا وأن في بعض إظهار المودة للمسلمين كفاية على حد قول المثل الذي حكاه بشار بقوله‏:‏

واسعدْ بما قال في الحلم ابنُ ذي يَزَن *** يَلْهُو الكِرام ولا يَنْسَوْن أحسابا

فحكى الله ذلك عنهم حكاية لحيرتهم واضطراب أمرهم لأنهم كانوا يرسلون نفراً من قومهم جواسيس على النبيء والمسلمين يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية ثم اتهموهم بخرق الرأي وسوء التدبير وأنهم دهبوا يتجسسون فكشفوا أحوال قومهم، ويدل لهذا عندي قوله تعالى بعد‏:‏ ‏{‏أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون وأخبار مروية عن بعض التابعين بأسانيد لبيان المتحدث به، فعن السدي كان بعض اليهود يحدث المسلمين بما عذب به أسلافهم، وعن أبي العالية قال بعض المنافقين‏:‏ إن النبيء مذكور في التوراة، وعن ابن زيد كانوا يخبرون عن بعض قصص التوراة‏.‏

والمراد بما فتح الله‏}‏ إما ما قضى الله به من الأحوال والمصائب فإن الفتح بمعنى القضاء وعليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 89‏]‏ والفتاح القاضي بلغة اليمن، وإما بمعنى البيان والتعليم، ومنه الفتح على الإمام في الصلاة بإظهار الآية له وهو كناية مشهورة لأن القضاء يستلزم بيان الحق، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 89‏]‏ أي يسألونهم العلم بالأمور التشريعية على أحد وجهين، فالمعنى بما علمكم الله من الدين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ليحاجوكم به عند ربكم‏}‏ صيغة المفاعلة غير مقصود بها حصول الفعل من جانبين بل هي لتأكيد الاحتجاج أي ليحتجوا عليكم به أي بما فتح الله عليكم‏.‏

واللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليحاجوكم‏}‏ لام التعليل لكنها مستعملة في التعقيب مجازاً أو ترشيحاً لاستعمال الاستفهام في الإنكار أو التقرير مجازاً فإنه لما كان الاستفهام الموضوع لطلب العلم استعمل هنا في الإنكار أو التقرير مجازاً لأن طلب العلم يستلزم الإقرار والمقرر عليه يقتضي الإنكار لأن المقر به مما ينكر بداهة وكانت المحاجة به عند الله فرعاً عن التحديث بما فتح الله عليهم جعل فرع وقوع التحديث المنكر كأنه علة مسؤول عنها أي لكان فعلكم هذا معللاً بأن يحاجوكم، وهو غاية في الإنكار إذ كيف يسعى أحد في إيجاد شيء تقوم به عليه الحجة فالقرينة هي كون المقام للإنكار لا للاستفهام ولذلك كانت اللام ترشيحاً متميزاً به أيضاً‏.‏

والأظهر أن قوله‏:‏ ‏{‏عند ربكم‏}‏ ظرف على بابه مراد منه عندية التحاكم المناسب لقوله‏:‏ ‏{‏يحاجوكم‏}‏ وذلك يوم القيامة لا محالة أي يجعلون ذلك حجة عليكم أمام الله على صدق رسولهم وعلى تبعتكم في عدم الإيمان به وذلك جار على حكاية حال عقيدة اليهود من تشبيههم الرب سبحانه وتعالى بحكام البشر في تمشي الحيل عليه وفي أنه إنما يأخذ المسببات من أسبابها الظاهرية فلذلك كانوا يرتكبون التحيل في شرعهم وتجد كتبهم ملأى بما يدل على أن الله ظهر له كذا وعلم أن الأمر الفلاني كان على خلاف المظنون وكقولهم في سفر التكوين «وقال الرب هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر» وقال فيه‏:‏ «ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه فقال‏:‏ أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته» وجاء في التكوين أيضاً «لما شاخ إسحاق وكلت عيناه عن النظر دعا ابنه الأكبر عيسو وقال له‏:‏ إني شخت ولست أعرف يوم وفاتي فالآن خذ عدتك واخرج إلى البرية فتصيد لي صيداً واصنع لي أطعمة حتى أباركك قبل أن أموت فسمعت ‏(‏رفقة‏)‏ أمهما ذلك فكلمت ابنها يعقوب وقالت‏:‏ اذهب إلى الغنم وخذ جديين جيدين من المعزى فاصنعهما أطعمة لأبيك حتى يباركك قبل وفاته فقال‏:‏ يعقوب لأمه إن عيسو أخي رجل أشعر وأنا رجل أملس ربما يجسني أبي فأكون في عينيه كمتهاون وأجلب على نفسي لعنة فقالت‏:‏ اسمع لقولي فذهب وصنعت له أمه الطعام وأخذت ثياب ابنها الأكبر عيسو وألبستها يعقوب وألبست يديه وملاسة عنقه جلود الجديين فدخل يعقوب إلى أبيه وقال‏:‏ يا أبي أنا ابنك الأكبر قد فعلت كما كلمتني فجسه إسحاق وقال الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو فباركه ‏(‏أي جعله نبيئاً‏)‏ وجاء عيسو وكلم أباه وعلم الحيلة ثم قال لأبيه‏:‏ باركني أنا فقال قد جاء أخوك بكرة وأخذ بركتك» إلخ فما ظنك بقوم هذه مبالغ عقائدهم أن لا يقولوا لا تعلموهم لئلا يحاجوكم عند الله يوم القيامة وبهذا يندفع استبعاد البيضاوي وغيره أن يكون المراد بعند ربكم يوم القيامة بأن إخفاء الحقائق يوم القيامة لا يفيد من يحاوله حتى سلكوا في تأويل معنى قوله ‏{‏عند ربكم‏}‏ مسالك في غاية التكلف قياساً منهم لحال اليهود على حال عقائد الإسلام ففسروا ‏(‏عند‏)‏ بمعنى الكتاب أو على حذف مضاف أو حذف موصول ثم سلك متعقبوهم في إعرابه غاية الإغراب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ من بقية مقولهم لقومهم ولا يصح جعله خطاباً من الله للمسلمين تذييلاً لقوله‏:‏ ‏{‏أفتطمعون أن يؤمنوا لكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏ لأن المسلمين وفيهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليسوا جديرين بمثل هذا التوبيخ وحسبهم ما تضمنه الاستفهام من الاستغراب أو النهي‏.‏

فإن قلت‏:‏ لم لم يذكر في الآية جواب المخاطبين بالتبرؤ من أن يكونوا حدثوا المؤمنين بما فتح الله عليهم كما ذكر في قوله المتقدم‏:‏ ‏{‏وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن‏؟‏

قلت‏:‏ ليس القرآن بصدد حكاية مجادلاتهم وأحوالهم فإنها أقل من ذلك وإنما يحكي منها ما فيه شناعة حالهم وسوء سلوكهم ودوام إصرارهم وانحطاط أخلاقهم فتبريهم مما نسب إليه كبراؤهم من التهمة معلوم، للقطع بأنهم لم يحدثوا المسلمين بشيء ولما دل عليه قوله الآتي أو لا يعلمون أن الله يعلم‏}‏ إلخ‏.‏ وأما ما في الآية المتقدمة من تنصلهم بقولهم ‏{‏إنا معكم‏}‏ فلأن فيه التسجيل عليهم في قولهم فيه‏:‏ ‏{‏إنما نحن مستهزئون‏.‏

وقوله‏:‏ أو لا يعلمون‏}‏ الآية، الاستفهام فيه على غير حقيقته فهو إما مجاز في التقرير أي ليسوا يعلمون ذلك والمراد التقرير بلازمه وهو أنه إن كان الله يعلمه فقد علمه رسوله وهذا لزوم عرفي ادعائي في المقام الخطابي أو مجاز في التوبيخ والمعنى هو هو، أو مجاز في التحضيض أي هل كان وجود أسرار دينهم في القرآن موجباً لعلمهم أن الله يعلم ما يسرون والمراد لازم ذلك أي يعلمون أنه منزل عن الله أي هلا كان ذلك دليلاً على صدق الرسول عوض عن أن يكون موجباً لتهمة قومهم الذين تحققوا صدقهم في اليهودية، وهذا الوجه هو الظاهر لي ويرجحه التعبير بيعلمون بالمضارع دون علموا‏.‏ وموقع الاستفهام مع حرف العطف في قوله‏:‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أو لا يعلمون‏}‏ سيأتي على نظائره وخلاف علماء العربية فيه عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 87‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏وقد كان فريق منهم يسمعون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏ عطف الحال على الحال و‏{‏منهم‏}‏ خبر مقدم وتقديمه للتشويق إلى المسند إليه كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الناس من يقول‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8‏]‏ والمعنى كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم محرفين وفريق جهلة وإذا انتفى إيمان أهل العلم منهم المظنون بهم تطلب الحق المنجي والاهتداء إلى التفرقة بينه وبين الباطل فكانوا يحرفون الدين ويكابرون فيما يسمعون من معجزة القرآن في الإخبار عن أسرار دينهم فكيف تطمعون أيضاً في إيمان الفريق الأميين الذين هم أبعد عن معرفة الحق وألهى عن تطلبه وأضل في التفرقة بين الحق والباطل وأجدر بالاقتداء بأئمتهم وعلمائهم فالفريق الأول هم الماضون‏.‏ وعلى هذا فجملة ‏{‏ومنهم أميون‏}‏ معطوفة على جملة ‏{‏وقد كان فريق منهم‏}‏ إلخ باعتبار كونها معادلاً لها من جهة ما تضمنته من كونها حالة فريق منهم وهذه حالة فريق آخر‏.‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏وإذا لقوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 76‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذا خلا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 76‏]‏ فتلك معطوفات على جملة ‏{‏وقد كان فريق‏}‏ عطف الحال على الحال أيضاً لكن باعتبار ما تضمنته الجملة الأولى من قوله‏:‏ ‏{‏يسمعون‏}‏ الذي هو حال من أحوال اليهود وبهذا لا يجيء في جملة ‏{‏ومنهم أميون‏}‏ التخيير المبني على الخلاف في عطف الأشياء المتعددة بعضها على بعض هل يجعل الأخير معطوفاً على ما قبله من المعطوفات أو معطوفاً على المعمول الأول لأن ذلك إذا كان مرجع العطف جهة واحدة وهنا قد اختلفت الجهة‏.‏

والأمي من لا يعرف القراءة والكتابة والأظهر أنه منسوب إلى الأمة بمعنى عامة الناس فهو يرادف العامي، وقيل‏:‏ منسوب إلى الأم وهي الوالدة أي إنه بقي على الحالة التي كان عليها مدة حضانة أمه إياه فلم يكتسب علماً جديداً ولا يعكر عليه أنه لو كان كذلك لكان الوجه في النسب أن يقولوا أمهى بناء على أن النسب يرد الكلمات إلى أصولها وقد قالوا في جمع الأم‏:‏ أمهات فردُّوا المفرد إلى أصله فدلوا على أن أصل أم أمهة لأن الأسماء إذا نقلت من حالة الاشتقاق إلى جعلها أعلاماً قد يقع فيها تغيير لأصلها‏.‏

وقد اشتهر اليهود عند العرب بوصف أهل الكتاب فلذلك قيل هنا‏:‏ ‏{‏ومنهم أميون‏}‏ أي ليس جميعهم أهل كتاب‏.‏ ولم تكن الأمية في العرب وصف ذم لكنها عند اليهود وصف ذم كما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيلاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏ وقال ابن صَيَّاد للنبيء صلى الله عليه وسلم «أشهد أنك رسول» وذلك لما تقتضيه الأميين من قلة المعرفة ومن أجل ذلك كانت الأمية معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم حيث كان أعلم الناس مع كونه نشأ أميًّا قبل النبوءة وقد قال أبو الوليد الباجي‏:‏ إن الله علّم نبيه القراءة والكتابة بعد تحقق معجزة الأمية بأن يطلعه على ما يعرف به ذلك عند الحاجة استناداً لحديث البخاري في صلح الحديبية وأيده جماعة من العلماء في هذا وأنكر عليه أكثرهم مما هو مبسوط في ترجمته في كتاب «المدارك» لعياض وما أراد إلا إظهار رأيه‏.‏

والكتاب إما بمعنى التوراة اسم للمكتوب وإما مصدر كتب أي لا يعلمون الكتابة ويبعده قوله بعده‏:‏ ‏{‏إلا أماني‏}‏ فعلى الوجه الأول يكون قوله‏:‏ ‏{‏لا يعلمون الكتاب‏}‏ أثراً من آثار الأمية أي لا يعلمون التوراة إلا علماً مختلطاً حاصلاً مما يسمعونه ولا يتقنونه، وعلى الوجه الثاني تكون الجملة وصفاً كاشفاً لمعنى الأميين كقول أوس بن حجر‏:‏

الألمعي الذي يظن بك الظ *** ن كأن قد رأى وقد سمعا

والأمانيُّ بالتشديد جمع أُمْنِيَّة على وزن أفاعيل وقد جاء بالتخفيف فهو جمع على وزن أفاعل عند الأخفش كما جمع مفتاح على مفاتِح ومفاتيح، والأمنية كأثْفِيَّة وأُضحية أفْعُولة كالأعجوبة والأضحوكة والأكذوبة والأغلوطة، والأماني كالأعاجيب والأضاحيك والأكاذيب والأغاليط، مشتقة من مَنَى كرمى بمعنى قدَّر الأمرَ ولذلك قيل تمنى بمعنى تكلف تقدير حصول شيء متعذر أو متعسر، ومنَّاه أي جعله مَانياً أي مقدِّراً كناية عن الوعد الكاذب لأنه ينقل الموعود من تقدير حصول الشيء اليومَ إلى تقدير حصوله غداً، وهكذا كما قال كعب بن زهير‏:‏

فلا يَغُرَّنْك ما مَنَّت وما وعدت *** إن الأَماني والأحلامَ تضليل

ولأن الكاذب ما كذب إلا لأنه يتمنى أن يكون ما في نفس الأمر موافقاً لخبره فمن أجل ذلك حدثت العلاقة بين الكذب والتمني فاستعملت الأمنية في الأكذوبة، فالأماني هي التقادير النفسية أي الاعتقادات التي يحسبها صاحبها حقاً وليست بحق أو هي الفعال التي يحسبها العامة من الدين وليست منه بل ينسون الدين ويحفظونها، وهذا دأب الأمم الضالة عن شرعها أن تعتقد مالها من العوائد والرسوم والمواسم شرعاً، أو هي التقادير التي وضعها الأحبار موضع الوَحي الإلهي إما زيادة عليه حتى أنستهم الأصل وإما تضليلاً وهذا أظهر الوجوه‏.‏

وقيل‏:‏ الأماني هنا الأكاذيب أي ما وضعه لهم الذين حرفوا الدين، وقد قيل الأماني القراءة أي لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظوها ويدرسونها لا يفقهون منها معنى كما هو عادة الأمم الضالة إذ تقتصر من الكتب على السرد دون فهم وأنشدوا على ذلك قول حسان في رثاء عثمان رضي الله عنه‏:‏

تمنَّى كتابَ الله أوَّلَ لَيْلِهِ *** وآخِرَه لاَقى حمام المَقَادِر

أي قرأ القرآن في أول الليل الذي قُتل في آخره‏.‏

وعندي أن الأماني هنا التمنيات وذلك نهاية في وصفهم بالجهل المركب أي هم يزعمون أنهم يعلمون الكتاب وهم أميون لا يعلمونه ولكنهم يدَّعون ذلك لأنهم تمنوا أن يكونوا علماءَ فلما لم ينالوا العلم ادعوه باطلاً فإن غي العالم إذا اتهم بميسم العلماء دل ذلك على أنه يتمنى لو كان عالماً، وكيفما كان المراد فالاستثناء منقطع لأن واحداً من هاته المعاني ليس من علم الكتاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

الفاء للترتيب والتسبب فيكون ما بعدها مترتباً على ما قبلها والظاهر أن ما بعدها مترتب على قوله‏:‏ ‏{‏وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 75‏]‏ الدال على وقوع تحريف منهم عن عمد فرُتب عليه الإخبار باستحقاقهم سوء الحالة، أو رتب عليه إنشاء استفظاع حالهم، وأعيد في خلال ذلك ما أجمل في الكلام المعطوف عليه إعادة تفصيل‏.‏

ومعنى‏:‏ ‏{‏يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ أنهم يكتبون شيئاً لم يأتهم من رسلهم بل يضعونه ويبتكرونه كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ثم يقولون هذا من عند الله‏}‏ المشعر بأن ذلك قولهم‏:‏ بأفواههم ليس مطابقاً لما في نفس الأمر‏.‏

و ‏(‏ثم‏)‏ للترتيب الرتبي لأن هذا القول أدخل في استحقاقهم الويل من كتابة الكتاب بأيديهم إذ هو المقصود‏.‏ وليس هذا القول متراخياً عن كتابتهم ما كتبوه في الزمان بل هما متقارنان‏.‏

والويل لفظ دال على الشر أو الهلاك ولم يسمع له فعل من لفظه فلذلك قيل هو اسم مصدر، وقال ابن جني‏:‏ هو مصدر امتنع العرب من استعمال فعله لأنه لو صُرِّف لوجوب اعتلال فائه وعينه بأن يجتمع فيه إعلالان أي فيكون ثقيلاً، والويلة‏:‏ البلية‏.‏ وهي مؤنث الويل قال تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا يا ويلتنا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏ وقال امرئ القيس‏:‏

فقالت لك الويلات إنَّك مُرْجِلِي *** ويستعمل الويل بدون حرف نداء كما في الآية ويستعمل بحرف النداء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 14‏]‏ كما يقال يا حسرتا‏.‏

فأما موقعه من الإعراب فإنه إذا لم يضف أُعْرِب إعرابَ الأسماء المبتدإِ بها وأُخْبر عنه بلام الجر كما في هذه الآية وقوله‏:‏ ‏{‏ويل للمطففين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 1‏]‏ قال الجوهري‏:‏ وينصب فيقال‏:‏ ويلاً لزيد وجعل سيبويه ذلك قبيحاً وأوجب إذا ابتدئ به أن يكون مرفوعاً، وأما إذا أضيف فإنه يضاف إلى الضمير غالباً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويْلَكم ثوابُ الله خير لمن آمن‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 80‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَيْلك آمِن‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 17‏]‏ فيكون منصوباً وقد يضاف إلى الاسم الظاهر فيعرب إعراب غير المضاف كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير‏:‏ «وَيْلُ أمِّه مِسْعَرَ حَرْبٍ»

ولما أشبه في إعرابه المصادر الآتية بدلاً من أفعالها نصباً ورفعاً مثل‏:‏ حمداً لله وصبرٌ جميل كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحمدُ لله‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏ قال أكثر أئمة العربية‏:‏ إنه مصدر أُميتَ فعله، ومنهم من زعم أنه اسم وجعل نصبَهَ في حالة الإضافة نصباً على النداء بحذف حرف النداء لكثرة الاستعمال فأصل وَيلَه يا ويله بدليل ظهور حرف النداء معه في كلامهم‏.‏ وربما جعلوه كالمندوب فقالوا‏:‏ ويْلاَه وقد أعربه الزجاج كذلك في سورة طه‏.‏ ومنهم من زعم أنه إذا نصب فعلى تقدير فعل، قال الزجاج في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويْلَكم لا تفتروا على الله كذباً‏}‏

‏[‏طه‏:‏ 61‏]‏ في طه يجوز أن يكون التقدير ألزمكم الله ويلاً‏.‏ وقال الفراء إن ويل كلمة مركبة من وَيْ بمعنى الحُزن ومن مجرورٍ باللام المكسورة فلما كثر استعمال اللام مع وَيْ صيروهما حرفاً واحداً فاختاروا فتح اللام كما قالوا يَالَ ضَبَّةَ ففتحوا اللام وهي في الأصل مكسورة‏.‏ وهو يستعمل دعاء وتعجباً وزجراً مثل قولهم‏:‏ لا أب لك، وثكلتك أمك‏.‏ ومعنى‏:‏ فويل للذين يكتبون الكتاب‏}‏ دعاء مستعمل في إنشاء الغضب والزجر، قال سيبويه‏:‏ لا ينبغي أن يقال ‏{‏ويل للمطففين‏}‏ دعاء لأنه قبيح في اللفظ ولكن العباد كُلموا بكلامهم وجاء القرآن على لغتهم على مقدار فهمهم أي هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم‏.‏ وقد جاء على مثال ويل ألفاظ وهي وَيْح ووَيْس ووَيْب ووَيْه ووَيْكَ‏.‏

وذكر ‏{‏بأيديهم‏}‏ تأكيد مثل نَظَرْتُه بعيني ومثل‏:‏ ‏{‏يقولون بأفواههم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ والقصد منه تحقيق وقوع الكتابة ورفع المجاز عنها وأنهم في ذلك عامدون قاصدون‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ليشتروا به ثمناً قليلاً‏}‏ هو كقوله‏:‏ ‏{‏ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 41‏]‏ والثمن المقصود هنا هو إرضاء العامة بأن غيّروا لهم أحكام الدين على ما يوافق أهواءهم أو انتحال العلم لأنفسهم مع أنهم جاهلون فوضعوا كتباً تافهة من القصص والمعلومات البسيطة ليتفيهقوا بها في المجامع لأنهم لما لم تصل عقولهم إلى العلم الصحيح وكانوا قد طمعوا في التصدر والرئاسة الكاذبة لفقوا نتفاً سطحية وجمعوا موضوعات وفراغات لا تثبت على محك العلم الصحيح ثم أشاعوها ونسبوها إلى الله ودينه وهذه شنشنة الجهلة المتطلعين إلى الرئاسة عن غير أهلية ليظهروا في صور العلماء لدى أنظار العامة ومن لا يميز بين الشحم والورم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون‏}‏ تفصيل لجنس الويل إلى ويلين وهما ما يحصل لهم من الشر لأجل ما وضعوه وما يحصل لهم لأجل ما اكتسبوه من جراء ذلك فهو جزاء بالشر على الوسيلة وعلى المقصد، وليس في الآية ثلاث وَيْلات كما قد توهم ذلك‏.‏

وكأن هذه الآية تشير إلى ما كان في بني إسرائيل من تلاشي التوراة بعد تخريب بيت المقدس في زمن بختنصر ثم في زمن طيطس القائد الروماني وذلك أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد أمر بوضعها في تابوت العهد حسبما ذلك مذكور في سفر التثنية وكان هذا التابوت قد وضعه موسى في خيمة الاجتماع ثم وضعه سليمان في الهيكل فلما غزاهم بختنصر سنة 588 قبل المسيح أحرق الهيكل والمدينة كلها بالنار وأخذ معظم اليهود فباعهم عبيداً في بلده وترك فئة قليلة بأورشليم قصرهم على الغراسة والزراعة ثم ثاروا على بختنصر وقتلوا نائبه وهربوا إلى مصر ومعهم أرميا فخربت مملكة اليهود‏.‏ ومن المعلوم أنهم لم يكونوا يومئذ يستطيعون إنقاذ التوراة وهم لم يكونوا من حفظتها لأن شريعتهم جعلت التوراة أمانة بأيدي اللاويين كما تضمنه سفر التثنية وأمر موسى القوم بنشر التوراة لهم بعد كل سبع سنين تمضي وقال موسى ضعوا هذا الكتاب عند تابوت العهد ليكون هناك شاهداً عليكم لأني أعرف تمردكم وقد صرتم تقاومون ربكم وأنا حي فأحرى أن تفعلوا ذلك بعد موتي ولا يخفى أن اليهود قد نبذوا الديانة غير مرة وعبدوا الأصنام في عهد رحبعام بن سليمان ملك يهوذا وفي عهد يوربعام غلام سليمان ملك إسرائيل قبل تخريب بيت المقدس وذلك مؤذن بتناسي الدين ثم طرأ عليه التخريب المشهور ثم أعقبه التخريب الروماني في زمن طيطس سنة 40 للمسيح ثم في زمن أدريان الذي تم على يده تخريب بلد أورشليم بحيث صيرها مزرعة وتفرق من أبقاه السيف من اليهود في جهات العالم‏.‏

ولهذا اتفق المحققون من العلماء الباحثين عن تاريخ الدين على أن التوراة قد دخلها التحريف والزيادة والتلاشي وأنهم لما جمعوا أمرهم عقب بعض مصائبهم الكبرى افتقدوا التوراة فأرادوا أن يجمعوها من متفرق أوراقهم وبقايا مكاتبهم‏.‏ وقد قال‏:‏ ‏(‏لنجرك‏)‏ أحد اللاهوتيين من علماء الإفرنج إن سفر التثنية كتبه يهودي كان مقيماً بمصر في عهد الملك يوشيا ملك اليهود وقال غيره‏:‏ إن الكتب الخمسة التي هي مجموع التوراة قد دخل فيها تحريف كثير من علم صموئيل أو عزير ‏(‏عزرا‏)‏‏.‏ ويذكر علماؤنا أن اليهود إنما قالوا عزير ابن الله لأنه ادعى أنه ظفر بالتوراة‏.‏ وكل ذلك يدل على أن التوراة قد تلاشت وتمزقت والموجود في سفر الملوك الثاني من كتبهم في الإصحاح الحادي والعشرين أنهم بينما كانوا بصدد ترميم بيت المقدس في زمن يوشيا ملك يهوذا ادعى حلقيا الكاهن أنه وجد سفر الشريعة في بيت الرب وسلمه الكاهن لكاتب الملك فلما قرأه الكاتب على الملك مزق ثيابه وتاب من ارتداده عن الشريعة وأمر الكهنة بإقامة كلام الشريعة المكتوب في السفر الذي وجده حلقيا الكاهن في بيت الرب اه‏.‏ فهذا دليل قوي على أن التوراة كانت مجهولة عندهم منذ زمان‏.‏